على مسرح الدنيا؛ المشهد السادس والأخير

بقلم ؛ هيا عبد الجبار
إنه الصراع الأبدي بين الخير والشر، والحق والباطل، إلى قيام الساعة.
آذان يرفع في المساجد، وصلوات تتردد في الكنائس، وعلى الضفة الأخرى معابد ومعازف وطبول وراقصات وعُريٌ وفجور. دماء تسيل، وأرواح تُزهق، وسماء تشهد، وأرض تهتز، وبحر يضطرب غضبًا فيلفظ ما في جوفه من أسرار وأسحار وجثث، صارخًا:
«لا تنخدعوا بزرقتي الهادئة ، فأنا البحر الغدار،
لا يأمن جبروتي إنسان».
في جوفه أسرارُ الموت والحياة؛ حمل تابوت موسى برفق، واحتضن يونس في ظلمة بطن الحوت، وأخفى الكنوز والكهوف والكائنات العجيبة، من حيتانٍ مفترسة إلى أسماكٍ زاهية. هو عالم آخر قائم بذاته؛ حياة وصراع وفناء.
في أفق بعيد، حيث لا تصل الشمس إلا بلمحة قصيرة، كان عرشٌ عائم على بحيرة سوداء، يلمع كالظل المتلألئ. على هذا العرش جلس كيان لا يُرى بوضوح، عينيه كأنهما مرايا تعكس أسرار العالم كلها، صامت، يراقب كل من يقترب.
المياه تحت العرش كانت تهتز بلا موج، كما لو أن كل سر مظلم أو فتنة قد تجمعت هناك. كل من اقترب شعر بخوف عميق، لكنه كان مدفوعًا بفضول لا يُقاوم، يريد أن يعرف ما وراء الظلال. من اقترب تعلم أسرارًا غامضة، بعضها حكمة، وبعضها فتنة تقوده إلى أعماق مظلمة لا يستطيع الخروج منها إلا بإرادة صافية وقوة قلبية نادرة.
جلس اللعين على عرشه الأسود، يحيط به دخان وريح باردة، وأمواج تضطرب كأنها تسجد له، لا حبًّا بل إذعانًا لمكره. يرسل من حوله سراياه من الجن، ينتشرون في البر والبحر والجو، كلٌّ يحمل رسالته لإغواء بني آدم..
فيسأل أحد جنوده فيقول: «فرّقت بينه وبين أهله»
فتهتز أمواج البحر، ويضحك عرش الظلام.!
وهناك في السماء، تحلّقت طيور ضخمة بأجنحة سوداء، تحمل جثثًا وأسرارًا من عوالم مجهولة. صرخات وصوت أقدام خفية تأتي من وراء جبال محجوبة بسدّ من حديد ونحاس، حيث تُحتجز قبائل هائلة منذ آلاف السنين، محبوسة خلف الحاجز، محفوظة من الشيخوخة والموت، تنتظر اللحظة التي يرفع فيها الستار “السد” ليظهر الفساد الأكبر.
الرياح كانت تحمل أصواتهم، همهم المستمر، وتهتز الأشجار والصخور، وكأنها تذكير بأن الفوضى قد خُلقت لتختبر الصبر والقوة. والسماء نفسها تبدو مشبعة بالتوتر، والنجوم تتراقص على إيقاع غامض، كل شيء هنا رمز، كل حركة هنا رسالة، وكل ظل يحمل قصة
لم تُحكى.
وفي وسط هذا المشهد، كان الإنسان يقف مرتعدًا، لكنه يدرك حقيقة عظيمة:وهي أن ،
القوة الحقيقية ، هي في قلبه الذي يختار مواجهة الفتن أو الانغماس فيها.مهما كانت قسوة الحياة.
الليل يطول، والظروف تتغير، والعالم كله يصبح مسرحًا للغموض والفوضى، لكن كل شيء محكوم بقوة أكبر من كل المخلوقات، قوة الله الذي يختبر البشر والملائكة والشياطين على حد سواء.
وهكذا كان البحر شاهدًا على مسرح الدنيا الكبير؛ مسرحٍ يموت فيه العظماء، وتسيل فيه الدماء، وتُصنع فيه الحروب الأولى منذ أن أهبط الله آدم وإبليس معًا إلى الأرض. فمنذ ذلك الحين، انطلقت الحرب الأولى ،حربٌ على قلوب البشر وعقولهم، حربٌ لم ولن تهدأ حتى يُسدل الستار الأخير، وتعلن النهاية.
النهاية..
إنتهيت من كتابة مسرحيتي، ولم يسدل الستار
بعد على مسرح الدنيا ..
في ” الحياة ” كل شيء متغير: الأصوات، الرياح، الألوان، وحتى الوقت يبدو متوقفًا أحيانًا.
لكن السؤال يظل معلقًا كالظل:
هل نؤدي دورنا للآخرين؟ أم لأنفسنا؟ أم لأننا لم يُعطَ لنا خيارٌ آخر؟
خلف الستار، حيث الظلال كالأشباح والهمسات تختفي في الهواء، تكمن الحقيقة:
ليست في التصفيق، ولا في نهاية العرض، بل في الصدق المخفي، في اللحظات التي لا تراها العيون، في الكلمات التي تسمعها القلوب .
وحتى بعد انقضاء المشاهد، وعندما يُسدل الستار، يبقى المسرح حيًا، ينتظرنا في كل زاوية،
ليعود الممثلون من جديد، والستار يُرفع ويُسدل بلا نهاية، وكل ضوء وكل ظل،
يحكي قصة لم تُروَ بعد، مسرح لا يُغلق أبدًا، حيث الحياة نفسها تُعيد العرض من جديد .
فإلى متى سنبقى أسرى هذا المسرح؟ ومتى يسدل الستار الأخير؟