والله يقبض ويبسط: دروس في اليقين وحكمة الأقدار

بقلم: د. عثمان بن عبدالعزيز آل عثمان
الحياة قصيرة جدًا وهي موجٌ من التقلبات بين الضيق والفرج، والعسر واليسر، والقبض والبسط. سنةٌ إلهيةٌ بيَّنها القرآن الكريم في قوله تعالى:
{وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [البقرة: 245].
فالخالق سبحانه وتعالى يقدِّر الأرزاق والأعمار، يضيِّق ويوسِّع بحكمةٍ بالغةٍ، ليمتحن عباده ويمحِّص يقينهم.
كما قال الشاعر:
إذا ضاقت بك الدنيا فقل: لعلّها
بضيقها تُريدُ اللهَ إسعادي
فالأزمات والظروف الصعبة ليست نهاية الطريق، بل محطاتٌ للتزود بالصبر والصلاة، وفرصٌ لترسيخ اليقين. فكم من شدةٍ حملت في طيّاتها فرجًا، وكم من نعمةٍ أُجِّلت لحكمةٍ لا يعلمها إلا العليم الخبير. وفي المأثور الشعبي: “ما يضيق رب العالمين إلا ليفرّج”، تلخيصٌ لعقيدة المؤمن الراسخة. ومن حكم العرب: “ليس كل ما يُتمنى يُدرك”، إشارةٌ إلى أن الإنسان بين قبضة القضاء وبسطة القدر.
واليقين بالله سبحانه وتعالى هو مفتاح الطمأنينة في أوقات الشدة، والبوصلة التي تهدي القلوب حين تغيب الرؤية. فالمؤمن الحق يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن رزقه آتٍ لا محالة، ولو ساقه الله تعالى إليه على يد من ظلمه، أو من طريقٍ لم يخطر بباله.
فالرزق بيد الله تعالى وحده، ومن وثق به كُفي، ومن توكل عليه وُفِّق، ومن رضي بحكمه سكنت روحه، وإن اضطربت من حوله الأحوال.
وقد قيل بحق:
اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس، فإن الأمور تجري بمقادير الله سبحانه وتعالى
فلا تذل نفسك لمخلوق، وعلّق رجاءك بمن يملك مفاتيح الفرج، فـما يفتح الله تعالى للناس من رحمة لا يستطيع أحد أن يمنعها، وما يمنع فلا مرسل له من بعده. قال تعالى:
{مَا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعْدِهِۦ ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ} [فاطر: 2].
وهذا هو جوهر الإيمان: لا مغلق لما فتحه الله رب العالمين، ولا فاتح لما أمسكه. فكل أمرٍ مقدر، وكل حدثٍ محسوب، لا يتقدّم ولا يتأخر عن وقته. قال سبحانه:
{لَا ٱلشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَآ أَن تُدْرِكَ ٱلْقَمَرَ وَلَا ٱلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ ۚ وَكُلٌّۭ فِى فَلَكٍۢ يَسْبَحُونَ} [يس: 40].
فكما لا تسبق الشمس القمر، كذلك لا تُقدَّم أرزاق العباد ولا تُؤخَّر إلا بإذنه تعالى.
الليل مهما طال، يعقبه صباح. والقسوة مهما اشتدّت، فيها لطفٌ مخبوء. والضيق مهما ضاق، يعقبه فرج. هذه سننٌ إلهية، لا تتبدّل ولا تتغيّر.
وقد قدّم الأنبياء والصالحون دروسًا خالدة في التعامل مع الشدائد:
أيوب عليه السلام صبر حتى جاءه الفرج، ويونس في بطن الحوت نادى ربه فاستُجيب له، ورسولنا صلى الله عليه وسلم صبر على الأذى حتى أتم الله تعالى له النصر والتمكين.
إنّ اليقين لا يعني غياب الألم، بل يعني الاطمئنان إلى أن لله تعالى حكمة في كل ما يقع. فالقبض ابتلاء، والبسط امتحان، وكلاهما في ميزان الله تعالى عدل ورحمة.
وفي ختام التأمل:
{حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]
الحياة الدنيا ساحة ابتلاءات، منها ما يأتي من الأقدار، ومنها ما يكون من البشر. نظلم ونُظلَم، نُفتَن ونُختبر، لكن الله لا يخفى عليه شيء، ولا يُضيع حق مظلوم. قال تعالى:
{وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّٰلِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍۢ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلْأَبْصَٰرُ} [إبراهيم: 42].
الظلم وإن طال، له أجل. والحق وإن غُيِّب، له ساعة ظهور. وما بينهما زمنُ صبرٍ وثقةٍ بالله سبحانه وتعالى. فكم من مظلومٍ ارتفع ذكره، وكم من حقٍ بُعث بعد أن ظُنّ أنه طُوي.
يوسف عليه السلام ظُلم صغيرًا، وسُجن بريئًا، ثم أظهر الله تعالى براءته وجعله عزيز مصر. والنبي صلى الله عليه وسلم أُذي وقُوتل، ثم انتصر وأظهر الله تعالى دينه.
فلا يأس مع الإيمان، ولا انكسار مع التوكل، فالحق لا يُطفأ، والباطل إلى زوال. قال تعالى:
{وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ ۚ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
فلنُوقن أن الله سبحانه وتعالى سيُظهر الحق ولو بعد حين، وأن كل أذى نتعرض له هو اختبار يرفعنا، ويصفّي نفوسنا، ويقربنا من الله تعالى أكثر.
{وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمْرِهِۦ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21]
اللهم اجعلنا من الصابرين على البلاء، الشاكرين عند العطاء، المُوقنين بحكمك، الراضين بقضائك.
{وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ} [طه: 84]