التعايش مع الجن

 

بقلم

د. تركي العيار

أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود

يؤمن المسلمون بوجود عالم غيبي اسمه “الجن”، وهو جزء من العقيدة الإسلامية التي لا يُكتمل الإيمان إلا بالإيمان به. وقد أثبت القرآن الكريم وجودهم، وخصص لهم سورة كاملة بعنوان “الجن”، قال تعالى:

﴿وَأَنَّهُۥ كَانَ رِجَالٌۭ مِّنَ ٱلْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍۢ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادوهُمْ رَهَقًۭا﴾ الجن: 6.

فالجن مخلوقات خلقها الله من نار، وهم موجودون بيننا رغم أننا لا نراهم، قال الله تعالى:

﴿إِنَّهُۥ يَرَىٰكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُۥ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾ الأعراف: 27.

وهذا لا يعني أنهم بعيدون عنا، بل يعيشون في ذات الأرض، ويشاركوننا أحيانًا في الأماكن المهجورة، والبيوت غير المسكونة، والخلاء، وفي أماكن النجاسة أو التلوث.

لقد أثبتت النصوص الشرعية أن فيهم المسلم والكافر، الصالح والفاسد، مثلهم مثل البشر تمامًا، قال الله تعالى:

﴿وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّـٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَدًۭا﴾ الجن: 11.

فالجن ليسوا شرًا مطلقًا، فمنهم الطيبون الذين لا يؤذون البشر، بل قد يستفيد الإنسان منهم أحيانًا دون أن يشعر، إذا ما كانوا صالحين ومتقين لله. أما الكافرون منهم أو من بهم شر وحقد وأذية، فقد يتعمدون إيذاء البشر، بالتخويف، أو الوسوسة، أو التسلط، أو حتى المسّ والصرع، كما دلت عليه تجارب كثيرة وشهادات حية. فالتعايش مع الجن لا يعني دعوتهم إلى بيوتنا، أو التعامل معهم مباشرة، أو البحث عنهم بدافع الفضول، بل المقصود به هنا أن نتقبل وجودهم كحقيقة غيبية لا مهرب منها، وأن نعيش بوعي واتزان واحتراز.

فهم يعيشون بيننا، في الأسواق، والبيوت، والمزارع، والصحراء، والجبال، وقد يتسللون إلى تفاصيل حياتنا إن وجدوا الفرصة، خصوصًا في حالات الغفلة، أو عدم التسمية، أو الانشغال عن ذكر الله، ولهذا جاء في السنة النبوية المطهرة جملة من التوجيهات التي تحفظ الإنسان من أذى الجن، منها:

– التسمية عند دخول البيت أو الخلاء.

– قراءة آية الكرسي قبل النوم.

– المحافظة على أذكار الصباح والمساء.

– تجنب الأماكن المشبوهة والمهجورة دون حاجة. بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستعجال في قضاء الحاجة في الأماكن المسكونة أو تحت الأشجار المعروفة بذلك، تحذيرًا من التعدي على مساكن الجن دون قصد. ولا شك أن بعض القصص المرتبطة بالجن قد تكون فيها مبالغات وخرافات، لكن هذا لا ينفي وجود حالات حقيقية وموثقة لأذى الجن لبعض البشر، وقد تدخل ضمن باب الابتلاء والاختبار الرباني، أو تكون بسبب تجاوزات بشرية مثل السحر أو الاستعانة بالكهنة. فعلينا أن نكون متوازنين في فهمنا لعالم الجن، فلا نبالغ بالخوف المَرَضي منهم، ولا ننكر وجودهم إنكارًا صريحًا، بل نتبع الاعتدال والوعي، فكما قيل: “إذا سلمتَ سلموا، وإن تعديتَ أذوك”.

ختامًا، اقول بأن التعايش مع الجن لا يعني المصاحبة أو البحث عن العلاقة، بل يعني أن نؤمن بوجودهم ونحتاط من شرورهم ونستعيذ بالله دائمًا، لأن الله وحده هو الحافظ من كل شر، قال تعالى:

﴿وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ﴾ آل عمران: 101

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com