التلبية زينة الحج وشعاره

د. اياد بن احمد شكري
المدرس بمعهد تعليم اللغة العربية بالجامعة الإسلامية سابقا والمؤذن بالمسجد النبوي الشريف

التلبية في الحج والعمرة لها الفاظ مخصوصة وسنن مشروعة ومقاصد عظيمة، كلمات قليلة في ألفاظها، غنية في معانيها، تحمل أبعادًا بلاغية وبيانية عظيمة، رغم قِصر العبارة، إلا أنها جمعت: التوحيد، والحمد، والملك، والنعمة، والتفرد الإلهي، التلبية نداء المستجيبين لدعوة الله، المهاجرين إلى رضوانه، السائرين إلى بيته العتيق وحرمه المعظم الشريف
لا غنى للمسلم عن معرفتها واستحضارها ما يعينه على أداء العبادة على اتم وأكمل وجه وهي قول الحاج أو المعتمر:
(( لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ))
التلبية راية التمجيد
التلبية شعار التوحيد
التلبية زينة الحج وشعاره
التلبية محبة لله حبا بعد حب
التلبية دعوة الله إجابة بعد إجابة
التلبية طاعة الله والمداومة عليها وملازمتها
التلبية انقياد النفس لله خاضعة ذليلة
التلبية الاقتراب من الله اقتراب بعد اقتراب
التلبية الإخلاص لله أي جعلت لك لبي وخالصتي
التلبية التوجه لله أي توجهت اليك ربي لترضى
التلبية ليست إخبارًا، بل نداء واستجابة
والتلبية تجعل المُلبي بين الخوف والرجاء.
ما أعظمها من كلمات، وما لها من أثر نفسي إيماني على قائلها، فهي ليست كلمات جوفاء، بل هي معاني عظيمة تنبع من وجدان قلب المؤمن فتضيء بنور الإيمان واليقين ذلك الوجدان، وتهذب سلوك القائل، وتصيغ حياته كلها وفق منهج الإيمان.
الفاظ التلبية لا تُعبّر فقط عن عبودية المسلم، بل تُحرك مشاعره وتؤجج انفعاله الروحي، فهي تجمع إجلالًا: لله وحده لا شريك له و إذعانًا: لإرادته وطاعته ،وتوحيدًا: خالصًا من كل شرك ، وشكرًا: على النعمة و اعترافًا: بالملك والفضل له سبحانه .
وهي كلمات تنتزع الفرد من أدران الدنيا لتحلق به في جو عال من الإيمان والروحانية؛ يشعر بذلك من سمعها تخرج من قلوب صادقة، وبأصوات مرتفعة ، كل كلمة وُضعت موضعها، وكل تكرار له غايته، وكل تركيب يعكس أسمى ما يمكن أن يقوله قلب متوجه لله في نسك الحج أو العمرة قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبِّي إِلَّا لَبَّى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ حَتَّى تَنْقَطِعَ الْأَرْضُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا) فيتجاوب معها الجماد ابتهاجا وارتياحا وسعادة وسرورا يتجاوب معها الكون بأسر الحَجَر ٍوالشَجَرٍ والمَدَرٍ لما فيها من معانٍ فكيف بقلب المؤمن التقي النقي المقبل على ربه.
وسُئل عليه الصلاة والسلام: أي الحج أفضل؟ قال: العَجُّ والثَّجُّ «
العجُّ: رفع الصوت بالتلبية، والثَّجُّ: إراقة دم الهَدْيِ
ويستحب الاكثار منها ورفع الصوت بها للرجال ويتأكد عند تغاير الأحوال والأماكن والازمان ولا يقطعا بكلام ولا غيره ووقتها من الاحرام الى التحلل ولا يلبي في حال الطواف والسعي لان لهما اذكارا مخصوصة
و من ابرز الخصائص واظهر السمات البلاغية في التلبية تتسم التلبية
بالإيجاز بلاغة تُناسب مقام التقديس والخشوع و بعذوبة اللفظ ،وحسن النظم ،وقوة التأثير ،وتعد صيغة التلبية من جوامع الكلم وبليغ الايجاز ،وتكرار لفظ الإجابة لبيك لأنه المقصد الاعم لصيغة التلبية ،ونظم عقد التلبية في قرائن مسجوعه متناسقة تزيد من تأثيرها في النفوس ،والفصل بين قرائنها وجملها الا ما كان من عطف النعمة على الحمد وعطف الملك عليهما بعد اكتمال الخبر والتوكيد المستفاد من التكرار والتثنية في لفظ لبيك، وتنويع الأسلوب بين الخبر والانشاء والنفي والاثبات والجملة الفعلية والاسمية للإلمام بأطراف المعاني المختلفة ولتجديد نشاط السامع والملبي على حد سواء ،وخلوها من ضروب التصوير والتخييل والابهام لاشتمالها على الإقرار بالتوحيد
قال ابن الزبير رضي الله عنه، وسعيد بن جبير رحمه الله: “زينة الحج التلبية”.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “التلبية شعار الحج”.
قال الإمام الغزالي رحمه الله: “معناه إجابة نداء الله عز وجل، فَاَرْجُ أن تكون مقبولًا، واخْشَ أن يُقال لك: لا لبيك، ولا سعديك، فكُنْ بين الرجاء والخوف مترددًا، وعن حولك وقوتك متبرئًا، وعلى فضل الله عز وجل وكرمه مُتَّكِلًا”.

قال ابن سعدي رحمه الله “قول الملبي: لبيك اللهم لبيك، التزامٌ لعبودية ربِّه، وتكرير لهذا الالتزام بطمأنينة نفسٍ، وانشراح صدرٍ، ثم إثبات جميع المحامد، وأنواع الثناء، والملك العظيم لله تعالى، ونفي الشريك عنه في ألوهيته وربوبيته، وحمده وملكه، وهذا حقيقة التوحيد، وهو حقيقة المحبة”.
معاني نظم التلبية وما تتضمنه من اسرار البلاغة والبيان
لبيك:
في الابتداء به براعة في الاستهلال ومطابقة لمقتضى الحال وايماء من اول الامر الى ما في التلبية من مقاصد عظيمة وفوائد جليلة “لبيك اللهم لبيك” تعني إجابة الملبي لنداء الله تعالى، فهو قاصد طاعة الله مقبل ومتوجه إليه بنفسه، متجرد عن ملابسه، ومتجرد من ذنوبه، يسأل الله تجريده منها، وتبديله بلباس التقوى والطاعة والمغفرة، محب له ومقيم على طاعته وتشتمل التلبية عددا من المعاني في اللغة
منها انا مقيم على طاعتك ملازم لها إجابة بعد إجابة وفيها انفعال تعبدي يعكس حال التذلل والطاعة المطلقة، واتجاهي وقصدي اليك ومحبتي أي حبا لك بعد حب واخلاصي أي اخلصت لبي وقلبي لك وانا منقاد اليك ذليل بين يديك وانا مقيم على طاعتك وقربي منك اقتراب بعد اقتراب والبلاغة تتضمن الاخذ بهذه المعاني كلها مجتمعة لان الملبي كما هو مستجيب لنداء ربه فهو مقيم على طاعته محب له متوجه اليه بخضوع وإخلاص
والمعنى الأول اظهر يتضمَّن إجابة داعٍ دعاك ومنادٍ ناداك وان كلمة لبيك لا تقال الا لمن تُحبه وتعظمه كما انها تتضمن التزام دوام العبودية والخضوع والإخلاص لله، ولهذا قال جماعة من اهل العلم معنى التلبية اجابة دعوة إبراهيم حين اذن في الناس بالحج
وفيه تلميح الى كرم الله تعالى لعباده بأن وفودهم على بيته المحرم
إنما كان باستدعاء منه سبحانه. (الله أكبر اللهم انا نسألك من فضلك)

وتكرار التلبية ينفي التجوز في الخطاب ويؤكد انه حقا لداع سميع ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، مع استشعار قربه ومراقبته والتلذذ بإجابته ومخاطبته وكأنه حاضر مشاهد وفيه مراعاة لحسن النظم السجعي وهذا التناسب مطلوب والنفس تميل اليه بالطبع ولا سيما وقد سلم من التكلف والاستكراه
اللهم :
اسم ملازم للنداء معناه يا الله حذفت ياؤه وعوض عنها بالميم المشددة لأن الميم أدل على الجمع، فكأن الداعي جمع قلبه على ربه عز وجل لأنه يقول: يا ألله، ومن خصائص هذا اللفظ الكريم أنه مستلزم لجميع معاني أسماء الله الحسنى دال عليها بالإجمال ولهذا شاع استعماله في الدعاء، وَمَن دعا به الله،
فقد دعا الله بجميع اسمائه وكأن الداعي به قال يا لله الذي له الأسماء الحسنى.
وهذا الاسم مختص بدعاء الله عز وجل ولم ينادى في القران بغيره وفيه شعور قرب العبد من ربه ،وانه أقرب اليه من حبل الوريد يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ،وفيه شعور بقرب المُنادى من القلب وحضوره في الذهن وتوجه المُلبي اليه تعالى بكل جوارحه.
لا شريك لك:
هذه هي حقيقة الإخلاص وشعار التوحيد ملة إبراهيم، الذي هو روح الحج ومقصده بل روح العبادات كلها والمقصود منها، لا شريك لك في كل شيء لا شريك لك في ملكك و لا شريك لك في ربوبيتك، ولا شريك لك في ألوهيتك، ولا شريك لك في أسمائك وصفاتك، ولا شريك لك في كل ما يختص بك ، فأنا أُخلص لك فيها، ما حَجَجْتُ لا رياءً ولا سمعة، إنما حججت لك، ولبَّيتُ لك.
وقد جاء في الصحيح في وصف حجة النبي ﷺ ” فأهل بالتوحيد” فوصفت التلبية اهلال بالتوحيد لاشتمالها على الشهادة بانه لا شريك له
ومن بلاغة هذه الكلمة العظيمة تحقيق معناها ب(لا) النافية للجنس، والنكرة في سياقها نص في الاستغراق، ولان القصد نفي الشرك مطلقا، وفصلت جملتها عن التلبية لكمال الاتصال بينهما لأنها مؤكدة للإخلاص المفهوم من لبيك، والتلبية الأولى المؤكدة بالثانية لإثبات الالوهية وهذه بطرفيها لنبذ الشرك وإخلاص العبودية
ان الحمد والنعمة لك والملك:
روي بكسر همزة (إن) على الاستئناف ويكون المعنى إن الحمد كله لك على كل حال.
وروي بفتحها على التعليل ومن فتحها قال لبيك لهذا السبب
و كأنه جوابا لسؤال: لم لا شريك له في الالوهية؟ فيقال لأنه منفرد بالربوبية، وله الحمد، وله الفضل كله ،ومالك كل شيء ،ومليكة ،واليه يرجع الامر كله ،ولا اله الا هو ،ولا رب سواه ،رب كل شيء ومليكه والكسر اعم واكثر فائدة لان الكلام حينئذ يصير جملتين لا جملة وحدة وتكثير الجمل في مقام التعظيم مطلوب
الحمد: هو الثناء وصف المحمود بالكمال محبةً وتعظيمًا واجلالا، لا يستحق هذا الحمد على وجه الكمال إلا الله عز وجل
النعمة: المنة والإحسان والإنعام، فالنعمة كلها لله فهو مالك الملك بيده الخير وهو على كل شيء قدير
الملك: هو التصرف والتدبير شامل لملك الأعيان وتدبيرها، التعرف باللام للاستغراق والمعنى انه تعالى يستحق المحامد على كل حال بيده النعماء والملكوت وهو الملك الحق
وهذه الاوصاف العلية مؤكدة الثبوت لرب العالمين بإن وانه لا يدخل ريب ولا شك
وفي اجتماعها من العظمة والكمال والجلال ما الله أولى به وهو اهله،
وفي ذكر الملبي لها ومعرفته بها من انجذاب قلبه الى الله واقباله عليه والتوجه بدواعي المحبة كلها اليه ما هو مقصد التلبية ولبها
لا شريك لك:
لا شريك لك في الربوبية والمعنى لا شريك لك في هذه الاوصاف العلية، كما لا شريك لك في إجابة هذه الدعوة الإلهية، ولهذا كررت وحسن ختم الكلام بها لأنها جوهر الإخلاص وخلاصة التلبية
في نظم التلبية ظهر ما امتاز به من فصاحة الفاظه و اسرار بلاغته ودقته بيانه والايجاز والتوكيد والتكرار والقصر والفصل والوصل وتنويع الأسلوب وحسن البدء والختام وغيرها من افنان البيان وخلوها من ضروب التصوير والتخييل والابهام ولاشتمالها على مجمل عقائد الإسلام وحقائقه الكبرى
علم ان الذي نطق بها وعلمها لامته قد أعطاه الله جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصار وجمع له المعاني الكثيرة في الألفاظ يسيرة، ليسهل على السامعين نقلها، ولا يشقّ على المبلّغين حفظها.. مصداق ذلك ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ “بعثت بجوامع الكلم ”
عليه افضل الصلاة واتم السلام وجمعنا الله به في دار المقام مع الصديقين والشهداء والصالحين
والحمد لله رب العالمين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com