تكوّنت رؤيتي.. (2)

بقلم الكاتب و الأديب : علي عادل علي
مدينة : جدة
مارست التوازن بين الرشاقة التعبيرية، والعمق الثقافي، فالمحتوى الجمالي لا يلغي الفكر، بل يحتضنه.
في كل تجربة من هذه التجارب، لم يكن هدفي مجرد نشر مادة تحريرية، بل الاشتباك مع الوعي الجمعي، والمساهمة في خلق محتوى يتجاوز اللحظة، ويعيش أبعد من زمن نشره. أكتب لأصنع أثرًا، لا حضورًا فقط؛ أكتب لأمنح الكلمة حياة أطول
الكتابة عن الإنسان لا تكتمل دون الحضور معه
لطالما آمنت أن الكتابة عن الإنسان لا تكتمل إلا حين نكون معه، لا فوقه، ولا حوله، بل بجانبه. الكلمات وحدها لا تكفي لترجمة الألم، ولا تعكس بالضرورة عمق المعاناة أو لحظات الفقد أو انتصارات التعافي. ومن هذا الإدراك العميق، لم أكتفِ بأن أكتب عن الإنسان من مسافة آمنة، بل اخترت أن أكون حاضرًا في ميادين التجربة الإنسانية ذاتها.
انضمامي إلى “هيئة الهلال الأحمر السعودي” كمتطوع أساسي في المجال الصحي لم يكن مجرّد إضافة إلى سجل المهارات أو الأنشطة، بل كان قرارًا واعيًا بأن أمارس المعنى الذي أكتبه، وأن أمدّ يدي في لحظة احتياج حقيقي، لا فقط قلمي. هناك، وفي مواقف تتأرجح بين الخوف والرجاء، بين النزف والنجاة، اختبرت قُدرة الحضور الصامت، وفاعلية الكلمة غير المكتوبة: النظرة، الإيماءة، الإصغاء.
هذه اللحظات التي عشتها جعلتني أعيد التفكير في وظيفة الكتابة. لم تعد الكتابة بالنسبة لي أداة وصف أو تحليل فقط، بل صارت امتدادًا لتجربة معاشة، وشهادة أخلاقية على أن الكاتب الجيّد هو الذي يُراكم أثره في الحياة، قبل أن يُراكم إنجازاته في النشر.
هذا التماس المباشر مع هشاشة الإنسان وعظمته، مع ضعفه وقوّته، أضاف بعدًا أعمق إلى نصوصي، جعلها أقل تجميلًا وأكثر صدقًا، أقل تنظيرًا وأكثر قربًا من الناس. أكتب اليوم بعينٍ رأت، لا سمعت فقط، وبقلبٍ لمس، لا توقّع فقط.
لغتي… جسر للتعبير والتأثير
اللغة لم تكن يومًا مجرد أداة بالنسبة لي، بل كانت وطنًا أعيش فيه، ومساحة أتّسع عبرها. هي النافذة التي أطلّ منها على العالم، والمِرآة التي أرى من خلالها ذاتي. كانت العربية، منذ البدايات، أكثر من لغة أم… كانت ذاكرة وتكوين، سكنت وجداني لا بوصفها وسيلة تعبير، بل كهوية، وإحساس، ومسؤولية.
بالعربية أكتب، لا لأنني أجيدها فقط، بل لأنني أحبها، وأثق بقدرتها على حمل أثقل المعاني بأبسط التراكيب. هي التي تعلّمني كيف أصوغ الحنين، وكيف أرتّب الانكسار، وكيف أمنح الكلمات صوتًا يشبهنا. بها أُنسِب الحكايات إلى أهلها، وأمنح النص روحًا لا تترجم.
أما الإنجليزية، فهي الجسر الذي لا يُلغي الانتماء، بل يوسّعه. أتعامل معها كلغة تفتح لي آفاقًا جديدة، وفرصًا لتبادل المعنى مع قارئ لا يُشبهني ثقافيًا، لكنه يلتقي معي إنسانيًا. أقرأ بها، وأدوّن، وأُترجم ما يستحق أن يُقال للعالم. أستخدمها بوعي، لا كهروب من الجذر، بل كممرّ إلى الآخر.
لغتي في كلتا الحالتين ليست وسيلة، بل حضور. هي ما يجعل من كل نص فرصة لحوار جديد، ومعنى مُستعاد، وامتداد لما أؤمن به: أن الكتابة حين تُخلِص للغة، تخلُص للحقيقة.