جبال “شقري” بتبوك .. صفحات جيولوجية على أرض المملكة عمرها أكثر من 542 مليون عام

سمر الصباح/ تبوك
في الجنوب الغربي من مدينة تبوك شمال السعودية، تقف جبال “شقري” شامخة؛ تحكي قصة الأرض وتحولاتها الكبرى منذ أكثر من 542 مليون عام، ومع تعانق الرمال الحمراء بظلال صخورها الشقراء تتحول إلى وثيقة حية مفتوحة أمام العين والخيال معًا، حيث يجد الزائر في كل صخرة، وكل أخدود، وكل طبقة رسوبية، جزءًا من تفاصيل تسرد الأسرار الجيولوجية القديمة، لتكون وجهة سياحية عالمية تجمع بين قيمتها العلمية وتنوع جمالها الطبيعي.
وحول هذه الجبال وما تحمله من أسرار، قال مؤسس ورئيس مجلس إدارة جمعية “الجيولوجيون السعوديون” الدكتور عبدالعزيز بن لعبون، في حديثه لوكالة الأنباء السعودية: “إن جبال شقري بتبوك تمثل متحفًا جيولوجيًا مفتوحًا يروي قصصَا على الأرض يزيد عمرها عن 542 مليون عام -حسب الدراسات والبحوث العلمية-“، مشيرًا إلى أنها تضم أقدم الصخور الرسوبية في المملكة، والتي تعود للعصر الكمبري، وترسّبت فوق صخور الدرع العربي المكوّنة من صخور نارية ومتحولة قد يصل عمرها إلى آلاف الملايين من السنين، لتصبح بذلك سجلًا طبيعيًا زاخرًا بالأسرار.
وأضاف: “تعود التسمية الجيولوجية للجبال إلى “متكون الشق” السفلي، المكوّن من أحجار رملية حمراء داكنة، يعلوه “متكون شقري” ذو الأحجار الرملية الفاتحة، كما يُرجح أنها استمدت اسمها من لون هذه الصخور الشقراء، لافتًا إلى أن هذه الطبقات لا تقتصر على شقري وحدها فقط، بل ترتبط بمجموعة صخرية أوسع تُعرف بـ “مجموعة تيماء”، التي تضم أيضًا متكونات شقري والعلا ومتكون الساق، وهي أقدم المجموعات الصخرية في المملكة.
وبيّن ابن لعبون أن فرادة جبال شقري تتجلى في تنوع تكويناتها الطبيعية، حيث أسهمت الحركات الأرضية والعوامل الجوية على مدى ملايين السنين في تشكيل صدوع وأخاديد ومغارات، وأبدعت مشاهد مدهشة من الأعمدة الصخرية والمصاطب والفطر (عيش الغراب).
وأشار إلى أن بعض الصخور نحتتها الرياح والأمطار حتى بدت وكأنها أعمال فنية نادرة رسمتها الطبيعة، لافتًا إلى أن جبال شقري لا تقتصر على قيمتها العلمية فحسب، بل تحتضن أيضًا أهمية اقتصادية كبرى، إذ تُعد صخورها الرملية خزانات طبيعية للمياه الجوفية في شمال غرب المملكة، مما جعلها رافدًا مهمًا للزراعة والحياة، كما أسهمت عوامل التجوية فيها إلى تكوين كثبان الرمال التي شكّلت بحار الرمال الكبرى مثل النفود الكبير والدهناء والربع الخالي، ما يوضح الترابط الجغرافي بين تضاريس المملكة المختلفة.
وواصل الدكتور ابن لعبون قائلاً: “إن جبال شقري لم تغب عن الإنسان القديم، بل شكّلت له مأوى ومصدرًا للمياه والحياة الفطرية، فترك فيها سجلًا بآثاره الرائعة من منشآت حجرية ورسومات صخرية، تجسّد مشاهد من الحياة اليومية وصورًا لحيوانات برية مثل الأسود والذئاب والفيلة والجمال والوعول والغزلان”، مؤكدًا أن هذه النقوش تعد وثائق تاريخية لا تقدّر بثمن تسلط الضوء على علاقة الإنسان القديم بالبيئة المحيطة، وتكشف كيف شكّلت الطبيعة جزءًا أصيلًا من حياته وثقافته.
وأضاف أن المنطقة تضم إلى جانب ذلك ما يُعرف محليًا بـ “الشق”، وهو صدع عظيم يصل عمقه إلى نحو 280 مترًا، كاشفًا عن أقدم الصخور النارية والمتحولة والرسوبية، ويمتد غربًا حتى يتصل بأودية شمال البحر الأحمر، في مشهد يثير فضول الباحثين والجيولوجيين، ويجعله علامة فارقة في الخريطة الجيولوجية للمملكة.
ومن ناحية أخرى كشف الدكتور بن لعبون إلى أن جبال شقري قد حظيت باهتمام الإعلام والعلماء من مختلف دول العالم، حيث سبق أن وثّق التلفزيون الياباني مشاهدها ضمن تغطية علمية شارك بها وهدفت إلى دراسة مصادر كثبان الرمال في جزيرة العرب، مبينًا أن مثل هذه التغطيات العالمية، وما تحمله من شغف معرفي، تسلط الضوء على المملكة وجهة علمية وسياحية في آن واحد.
وأوضح أن جبال شقري تمثل مختبرًا طبيعيًا مفتوحًا للطلاب والباحثين في مجال علوم الأرض، إذ تتيح لهم دراسة الطبقات الرسوبية، ومقارنة أعمار الصخور، ورصد أثر الحركات التكتونية، كما أن وجودها على مقربة من مدينة تبوك يسهل الوصول إليها، ما يجعلها موقعًا مثاليًا للرحلات التعليمية والبحثية.
وفي ختام حديثه أكد رئيس مجلس إدارة جمعية “الجيولوجيون السعوديون” أن شقري ليست مجرد صخور وجبال، بل هي قصة الأرض مكتوبة بلغة الطبيعة، تحفظها الرمال وترويها الجبال، لتبقى متحفًا طبيعيًا مفتوحًا يُظهر عظمة الخالق -عز وجل- ويجمع بين العلم والسياحة والجمال، ويجسد عمق المملكة الجيولوجي والتاريخي، ويضعها في مصاف الوجهات العالمية التي تحتفي بذاكرة الأرض.