جيل يعيش في الزمن الذي لم يأتِ بعد

الجزء الثالث من سلسلة حنين إلى المستقبل:

بقلم الدكتورة /فاطمة إغبارية

كأننا وُلدنا في الغد، لا في الأمس.
نحمل في جيوبنا خرائط المستقبل، ونخشى أن نفقد الاتجاه في حاضرٍ لم يعد يستوعبنا.

جيل اليوم لا يعيش لحظته… بل يعيش ما بعدها.
تفكيره، أحلامه، وحتى قلقه، كله مشدود نحو الغد — وظيفة لم يحصل عليها بعد، علاقة لم تنضج بعد، مكان لم يسافر إليه، نسخة أفضل من نفسه لم يكتمل رسمها.

كل شيء مؤجل.
كل شيء مشروط بما سيأتي.
صرنا نأكل ونحن نفكر في الوجبة التالية.
نضحك بينما نحجز الضحكة القادمة.
ننجز، لا لنرتاح، بل لنبدأ شيئًا أكبر.

جيل متسارع لا يعرف التوقف، ولا يقبل البقاء في لحظة واحدة أكثر من اللازم.
جيل مراقَب دائمًا، يعرف أن عيونه ليست الوحيدة على ما يفعله.
جيل مراقِب أيضًا، يستهلك يوميًا آلاف اللحظات من حيوات الآخرين، يراقبهم وهم يتظاهرون بالعيش الحقيقي، فيحاول أن يعيش وهمًا يشبههم.

جيل يعيش المستقبل قبل أن يحدث.
جيل كتب قصته بالذكاء الاصطناعي، وصمم صور زفافه قبل أن يجد الحب.
جيل يخطط لمهنة لا توجد بعد، ويخشى فشلًا لم يحدث، ويشتري وقتًا لم يأتِ.

لكن…
أليس هذا شكلًا جديدًا من الحنين؟
حنينٌ لا إلى ما كان، بل إلى ما يُفترض أن يكون؟
حنينٌ إلى نسخة منا لم تولد بعد، نبحث عنها في كل شاشة، في كل إشعار، في كل فرصة نرجو أن لا تفوت.

إننا أبناء زمنٍ مؤجل.
نعيش فيه، لكن لا نسكنه.
نحن حاضر بأثرٍ مستقبلي.
منذ متى فقدنا القدرة على أن نعيش يومًا كاملًا دون أن نخطط لما بعده؟
حتى الأطفال — الذين كان يُفترض أنهم الأكثر حضورًا في اللحظة — صاروا يحفظون جدولًا مستقبليًا: من دروس البرمجة إلى معسكرات المهارات إلى مقابلات المدارس الدولية.
لم نعد نعيش اليوم من أجل اليوم. نحن نستهلكه كمرحلة انتقالية لما بعده.

كل لحظة نحياها، مشروطة بما يليها.
نختار ملابسنا لنبدو صالحين لصورةٍ “قد تُنشر”.
نلتقط الصور لا لنحتفظ بها، بل لنستثمرها رقميًا.
حتى رحلاتنا صارت معدّة سلفًا: المكان، الزاوية، التعليق.
كأننا نمارس الحياة في بث مباشر لا مجال فيه للخطأ، ولا متسع فيه للارتجال.

لكن هذه الحياة المؤجلة، السريعة، المخططة بدقة — تُخفي قلقًا هائلًا.
قلقًا من فوات شيء لا نعرف ما هو.
من ضياع فرصة لم نحددها بعد.
من تأخرٍ عن سباقٍ لا نعرف حتى وجهته.

وهنا يكمن التناقض الكبير:
نحن نبحث عن الطمأنينة في المستقبل، لكننا نضع كل قلقنا فيه أيضًا.
نتخيّل أننا سنكون بخير “عندما” نصل، دون أن نسأل أنفسنا: هل نعرف فعلًا إلى أين نريد الوصول؟
هل نريد أن نعيش، أم فقط نبدو وكأننا نعيش؟

جيلنا لا يفتقد الماضي، لأنه لم يعشه أصلًا.
ولا يستقر في الحاضر، لأنه لا يجذبه كفاية.
هو فقط يطارد صورة مستقبلية لنفسه — قد لا تأتي، أو قد تأتي متأخرة، أو أسوأ: قد تأتي ولا تشبهه.

نهاية الجزء الثالث

نحن جيل في منتصف الطريق.
لا نحن أبناء الماضي، ولا نحن صنّاع الحاضر.
نحن فقط نُعرّف أنفسنا بما سنصبح، لا بما نحن عليه الآن.

لكن السؤال الكبير يقترب:
ماذا لو توقف الزمن؟
لا مفر من مواجهته.

في الجزء القادم: “حين توقّف الزمن فجأة”… كيف يتصرّف جيل لا يعرف إلا أن يركض؟
ويبقى السؤال

هل جرّبت يومًا أن تعيش لحظة واحدة بكامل وعيك، دون أن تفكر بما يليها؟
جرّب ذلك هذا الأسبوع… ثم اسأل نفسك: هل كنتَ تشعر انك حي

إلى اللقاء في الجزء الرابع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com