دلالة القافية والرَّوِيِّ في ديوان “لا تخجلي” لشاعر الأمة محمد ثابت

بقلم حسن الحضري
شاعر وكاتب مصري

يضم ديوان “لا تخجلي” للشاعر محمد ثابت السيد، اثنتين وثلاثين قصيدة ومقطوعة، تحمل إحداها العنوان العام للديوان، وقد اهتم الشاعر في كل قصيدة باختيار نوع القافية وحرف الروي وحركته، بما يناسب غرض القصيدة ومفرداتها، ويتواءم مع العاطفة المسيطرة على الشاعر أثناء نظم القصيدة، وفي أولى قصائد الديوان “لماذا أنت مأساتي” يببتدئ الشاعر بقوله: [البسيط] السَّهمُ سهمُكِ والمأساةُ مأساتي

ماذا سأكتبُ عن جُرحي وأنَّاتي

اليومَ أكتبُ عن دمعي وأورِدَتِي

نهرُ الكآبةِ يجري في دُجَى ذاتي

جاء الشاعر بقافية متواترة؛ وهي أن يجيء في الضرب حرف متحرك بين ساكنين، وذلك الحرف المقصود هو الروي، وهو هنا التَّاء المثناة، والتَّاء حرف انفجاري مهموس، وجاءت حركة الروي الخفض، وهذا كله يتواءم مع الحالة النفسية التي عاناها الشاعر وهو ينظم هذه القصيدة بحسب ما تكشفه المفردات؛ فحرف التاء المتحرك بالكسر بين ساكنين؛ أتاح للشاعر نوعًا من العزلة التي بثَّ في ظلالها أشجانه؛ فالروي في جميع أبيات القصيدة ورد بعده ضمير الياء العائد على الشاعر، باستثناء بيتٍ واحد انتهى بقوله “للآتي” بمعنى “القادم أو المقبل” وهي كلمة تتصل دلالتها وجدانيًّا بحال القلق والاضطراب والترقب الذي يعيشه الشاعر في أثناء تعبيره عن مأساته التي يبوح بها في قصيدته.
ومن كلمات القافية في هذه القصيدة: (جراحاتي، دمعاتي، لوحاتي، ريشاتي، جناتي، شمعاتي، مجراتي، انكساراتي، صرخاتي…)، فقد تشكلت دلالة الحزن والأسى لدى الشاعر من خلال اتحاد القافية المتواترة مع رويِّ التاء المكسورة المشبعة التي كان من لوازمها الاستغراق، وهو التعبير النفسي عن العاطفة العامة في أبيات هذه القصيدة.
أما في قصيدة “البعد العصِي” فقد أراد الشاعر أن يجهر ويعلن عن مأساته، لذلك جاء بالقافية المتداركة وهي متحركان بين ساكنين، وجاء برويِّ الياء المثناة وهو حرف جهري، وهو في القصيدة ساكن؛ ليدل وجدانيًّا على الانحباس وامتناع الحركة، وجاء تشديد السكون متَّسقًا مع سياق التأكيد على ما يجهر به الشاعر من لوعته التي يبثُّها في هذه القصيدة، التي يبتدئها بقوله: [مجزوء الكامل] صُبِّي عبيرَكِ في سَما

يا واملَئِي الدُّنيا عليّْ

النُّورُ أنتِ النُّورُ لي

وجميعُ ما يُقْصِيكِ غَيّْ

وفيها يقول:
لا تتركي الأيامَ تمـ ـضي واترُكِي البُعدَ العَصِيّْ

وقد أفادت ثلاثية القافية المتداركة والروي الجهري والسكون المشدد؛ في كشف الجانب النفسي المسيطر على الشاعر حال نظمِه القصيدة.
وفي قصيدة أخرى لمحمد ثابت بعنوان “ما أروَعَه” يبتدئها بقوله: [الكامل] ما زال حُبُّكِ في صميمِ شريعتي

والقلبُ يسألُ حائرًا مَن شَرَّعَهْ

إنَّ العذولَ إذا أتَتْهُ صَبابتي

يبكي دمًا حتى يُلاقي مصرعَهْ

جاء بالقافية المتداركة أيضًا (الراء المفتوحة والعين متحركان وقبلهما الراء الساكنة وهي أولى الراءين اللتين تشتمل عليهما الراء المشددة، وبعد الراء والعين المتحركين هاء الصلة الساكنة)، فالروي في هذه القصيدة هو العين المفتوحة وهي حرف جهري، وبعد العين هاء الصلة الساكنة، والهاء حرف حنجري مهموس، وقد أراد الشاعر أن ينحبس الكلام عند نهاية الساكن؛ للتأكيد على دلالة ما قبله وهو الجهر في رويِّ العين، وفي سياق ذلك التأكيد يختم الشاعر قصيدته بقوله:
وأظلُّ أقتحمُ الحُصُونَ بأحرُفي

ويظلُّ شِعري في الهوَى ما أروَعَهْ

وهاء الصِّلة هنا ضمير يعود على قوله “شِعري”.
وفي قصيدة أخرى بعنوان “فدعيه يأخذ في رضاك” يقول محمد ثابت في مطلعها: [الكامل] ألقَتْ عليَّ تحيةً وسَلاما

وأنا أذوبُ صَبابةً وهُياما

هلَّتْ عليَّ بِرُوحِها وبِنُورِها

وعيونُها تُلقي عليَّ سهاما

والقافية هنا متواترة؛ حيث جاءت ميم الرويِّ بين ألِفَينِ ساكنين، وحرف الميم من الحروف المجهورة، ودلالة الإطلاق بالفتح هنا استرعاء الانتباه؛ حيث يتيح نوع القافية وحركة الروي في هذه القصيدة للشاعر أن يُكثر من الإتيان بالفعل الماضي، فيؤكد الوقوع الفعلي لِما يتكلم، وكذلك يأتي بمفرداتٍ في موقع المفعول والتمييز والحال، فيستطيع من خلال هذه المنصوبات تأكيد صدق عاطفته، التي عبَّر عنها بمفرداتٍ قوية ساهمت في إبرازها؛ مثل: (هياما، سهاما، غراما، كلاما، الأحلاما، صِداما…)، ثم يختم الشاعر قصيدته بقوله:
ما لِي وحبكِ بعدَ أن أحيا مَوا

تَ قصائدي واستنفَرَ الإلهاما

فأوجز جميع ما سبق من معاني أبيات القصيدة في هذا البيت.
وفي قصيدة “مُرِّي بِعَيني” التي مطلعها: [مجزوء الكامل المرفل] مُرِّي بِعَيني واستريحي

يا فِتنةَ القلبِ الجريحِ

القافية متواترة أيضًا، وقد سبق بيان معناها، والروي هنا الحاء المهملة المكسورة، وهي حرف مهموس، والكسر أقوى الحركات في العربية، فجاءت القافية والروي وحركة الروي، في إطار الانسجام والتناغم مع المعاني التي يعبر عنها الشاعر في هذه القصيدة؛ نحو قوله:
كلُّ البحورِ دموعُ عَيْـ

ـني فانطقي ألمًا وبُوحِي

أنتِ البريئةُ مِن دمي

فمَنِ الذي أفنَى صُرُوحِي

فالروي المكسور يساعد في الاستغراق والإطالة في النطق، فيعمل ذلك على التهدئة من القلق والتوتر، ويساهم في خفض حدَّة الغضب إذا كان المتكلم غاضبًا.
وفي قصيدة “كلُّنا رَهْنُ المَنِيَّة” التي يقول محمد ثابت في مطلعها: [مجزوء الرمل] إنها الدُّنيا الفَتِيَّهْ

كلُّ مَنْ فيها ضحيَّهْ

جاءت القافية متواترة أيضًا، والروي الياء المثناة وهو حرف جهري كما سبق ذِكره، وجاءت بعد الروي هاء الصلة الساكنة وهي حرف حنجري مهموس، والروي المفتوح يفيد في استرعاء الانتباه كما سبق بيانه، والسكون يفيد الانحباس والامتناع كما مرَّ، فالشاعر يريد أن يعلن شيئًا ثم يقف بعده عن الكلام؛ لتأكيد ما سبق الوقوف، وقد تمكن الشاعر من ذلك معتمدًا على ثلاثية القافية والروي والصلة، ومن المعاني التي تناولها في هذا الإطار قوله:
نَرسُمُ الأحلامَ وَهْمًا
ثُمَّ نصحُو في البَلِيَّهْ

نَرتَجِي منها حنانًا

كلَّ صبحٍ وعشيَّهْ

وننتقل إلى قصيدة “يأتي الرَّبيعُ بظلِّها” التي يقول الشاعر في مطلعها: [الكامل] ما زالَ قلبي في هواكِ يجودُ

والحبُّ يعلو منطقي ويسودُ

فنجد القافية المتواترة أيضًا، والروي هنا هو الدال المهملة، وهو من الأصوات الجهرية، وقد جاء متحركًا بالضم، والضم في الروي لا بدَّ من إشباعه نطقًا بحيث يولِّد بعده واوًا، فأشْبَهَ الجمع من حيث النطق وإن لم يكن ثمة جمع، لذلك فهو شديد التناسب مع المفردات التي جاءت في القافية؛ مثل: (يسود، ورود، حشود…).
فإذا انتقلنا إلى قصيدة “فهل تدرين أشواقي؟” التي يبتدئها بقوله: [مجزوء الوافر] عيونُكِ أنتِ تَرياقي

فهَلْ تَدرينَ أشواقي

نجد القافية المتواترة أيضًا، وأما الروي هنا فهو القاف، وهو من الأصوات الجهرية التي تمتاز بالشدة، وحركته في القصيدة الكسر، وهو أقوى الحركات، ويساعد في الاستغراق والإطالة في النطق كما سبق؛ فالشاعر حين يقول في هذه القصيدة كلماتٍ نحو (أشواقي، إحراقي، إخفاقي، أوراقي، إشراقي)؛ فإنه يحتاج إلى تأكيد نسبة دلالات هذه الكلمات إلى نفسه، لذلك فإن المناسب لحركة الروي في هذه القصيدة هو الكسر، بل الكسر المشبع تحديدًا كما فعل؛ فمِن خلال إشباع الكسر جاء بضمير الياء الذي يعود عليه؛ ومن أبيات هذه القصيدة:
وجمرُ هواكِ في قلبي

فهَلْ تَنوِينَ إحراقي

أنا يا جنَّةَ الأحلا

مِ أشواقُ الهوى الباقي

هكذا نجد في قصائد الديوان اختيارًا موفَّقًا لنوع القافية وحرف الروي وحركته، بما يتواءم مع مضمون كل قصيدة، فكان لهذا الاختيار دلالته القوية المعبرة عن المعنى في إطار العاطفة المسيطرة على الشاعر في كل قصيدة.

بقلم
الدكتور حسن الحضري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى