قراءة في قصيدة بشار بن برد: صراع الحب واليأس.

عبدالعزيز عطيه العنزي

من حبّها أتمنّى أن يُلاقيني
من نحوِ بلدتِها ناعٍ فينْعاها

يُقدم بشار بن برد في هذه الأبيات الثلاثة لوحة نفسية شديدة التعقيد، تكشف عن عمق معاناة العاشق اليائس. لا يمكن فهم تمني الشاعر لموت محبوبته على أنه كراهية أو قسوة، بل هو صرخة ألم ناتجة عن حب مُضنٍ وصل به إلى أقصى درجات اليأس من الوصال أو حتى النسيان.
تمني الفراق الأبدي
تبدأ القصيدة بتمنٍ صادم: “من حبّها أتمنّى أن يُلاقيني / من نحوِ بلدتِها ناعٍ فينْعاها”. هذا التمني للموت ليس نابعًا من رغبة في الانتقام، بل من رغبة ملحة في إنهاء العذاب العاطفي. الشاعر هنا يرى في الفراق الأبدي، الذي يجلبه الموت، الحل الجذري والوحيد ليتمكن من المضي قدمًا:

“كيما أقولُ فِراقٌ لا لقاء له / و تُضمر النّفس يأسًا ثمّ تسلاها”.

هو يعتقد أن اليأس المطلق من عودة أو لقاء سيُجبر النفس على النسيان والسلوى، وهو ما عجزت عنه كل محاولات الفراق الأخرى. هذا يعكس حالة من الإعياء الروحي حيث يصبح الموت أقل قسوة من استمرار ألم الحب دون أمل.
التناقض العاطفي: الشفقة والحب الكامن
على الرغم من هذا التمني القاسي، يُفاجئنا البيت الأخير ليُظهر الوجه الآخر لهذا الحب:

“و لو تموتُ لراعَتني و قلتُ لها / يا بؤسَ للموت ، ليت الدّهر أبقاها”.

هذا البيت يكشف عن تناقض عاطفي عميق ومفجع. فبالرغم من تمنيه للموت كسبيل للراحة، إلا أن وقوع هذا الموت فعليًا سيُسبب له روعة وصدمة. هنا تظهر الشفقة الحقيقية والحب الكامن الذي لم يُمحَ، بل هو مدفون تحت طبقات اليأس والألم. إنه يريد الخلاص من عذابه، لكنه لا يستطيع أن يتحمل فكرة غياب المحبوبة المطلق. هذا التناقض يبرز مدى تعقيد المشاعر الإنسانية؛ فالنفس البشرية قد ترغب في ما يُنهي ألمها حتى لو كان ذلك على حساب وجود من تحب، لكنها في ذات الوقت لا تستطيع تقبل الفقد النهائي.
خلاصة: الحب كداء عضال
بشار بن برد في هذه الأبيات يصور الحب كـداء عضال، والموت هو السبيل الوحيد للشفاء منه، حتى لو كان هذا “الشفاء” مصحوبًا بوجع الفقد النهائي. إنها قصيدة تعبر عن الشقاء العاطفي الذي يدفع صاحبه إلى تمني المستحيل كحل أخير لألمه، مع إدراك مرير بأن هذا الحل ذاته لن يخلو من الألم. القصيدة تظل شاهدًا على عبقرية بشار في تصوير أدق وأعقد تقلبات النفس البشرية في بحر الحب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com