كل شيء له نهاية

بقلم:
د. تركي العيار
أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود

في زحمة الحياة وتسارع وتيرتها، ينسى البعض أو يتجاهل حقيقة كونية كبرى، وهي أن كل شيء في هذا الوجود له نهاية. لا شيء يبقى على حاله، ولا شيء يدوم إلى الأبد، فالله وحده هو الباقي، وكل ما سواه فانٍ: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ۝ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: 26-27]. فالفناء سنة كونية ، سواء كنا نتحدث عن البشر أو الحيوان أو النبات أو الجماد، أو حتى الأشياء التي ننتجها بأيدينا، فإن لكل شيء عمرًا افتراضيًا ومصيرًا محتوماً. وفقًا لتقديرات منظمة الصحة العالمية، يبلغ متوسط عمر الإنسان عالميًا نحو 73 عامًا، بينما تشير دراسات بيئية إلى أن الأجهزة الإلكترونية مثل الهواتف المحمولة يتراوح عمرها الافتراضي بين 2 إلى 4 سنوات، في حين أن السيارات تدوم في المتوسط من 8 إلى 15 عامًا، حسب ظروف الاستخدام والصيانة. فكل هذه المؤشرات تؤكد أن الفناء ليس استثناءً، بل هو القاعدة. بالرغم من هذه الحقيقة الجلية، نجد أن الكثير من الناس يركضون خلف جمع المال، وتحقيق المراكز، وحصد الألقاب، وكأنهم سيخلدون في هذه الحياة. البعض يجهد نفسه حتى آخر رمق، لا يمنح جسده قسطًا من الراحة، ولا ينعم بقرب أهله وأحبابه، لأنه منشغل بما يظنه دائمًا، بينما هو في حقيقته زائل لا محالة. تشير دراسة أجرتها جامعة هارفارد إلى أن 78% من الأشخاص الذين يعملون في وظائف عالية الضغط لا يحصلون على وقت كافٍ للراحة، ويؤجلون الترفيه أو الإجازات بحجة “لاحقًا”، لكن “اللاحق” قد لا يأتي أبدًا. حتى الآلات التي نستخدمها، ورغم تطورها الهائل، فهي مبرمجة على الانتهاء. البطاريات تفرغ، والأنظمة تتهالك، والموديلات الجديدة تلغي القديمة. شركة Apple مثلاً تُخرج أجهزة الآيفون من الدعم بعد مرور 7 سنوات على إنتاجها، وهو ما يدفع المستخدمين للتجديد باستمرار. فهذا السلوك الاستهلاكي يجب أن يكون جرس إنذار يوقظ وعينا بأننا أيضًا نتآكل، نضعف، ونقترب من النهاية مع مرور كل يوم. المؤلم أن البعض يُفاجأ بالنهايات، وكأنها لم تكن مكتوبة من البداية. يُصدم البعض بوفاة شخص عزيز، أو بتعطل مشروع كان ناجحًا، أو بتراجع صحة مفاجئ، أو بانتهاء علاقة اعتقد أنها ستدوم. كل هذه الصدمات تعود إلى عدم الاستعداد النفسي لفكرة أن النهاية حتمية.
يشير تقرير لمجلة “Psychology Today” إلى أن الأشخاص الذين يتقبلون فكرة الفناء والنهاية هم أكثر قدرة على الاستمتاع بالحياة، والتعافي من الصدمات، واتخاذ قرارات متوازنة.
إن إدراكنا بأن لكل شيء نهاية لا يعني أن نتشائم، بل هو دعوة لأن نعيش الحياة بوعي واتزان. أن نستثمر وقتنا في ما ينفع، ونوازن بين العمل والراحة، وبين الكد والتأمل. أن لا نؤجل لحظات السعادة، ولا نربط راحتنا بتحقيق كل شيء، لأن “كل شيء” قد لا يتحقق قبل النهاية. ولعل أجمل ما نختم به هو حديث النبي ﷺ:
“كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل” [رواه البخاري]، فهي رسالة خالدة بأننا ضيوف عابرون، وما نملكه اليوم قد لا يكون لنا غدًا.
خلاصة القول، كل شيء له نهاية: المال، الجسد، العمل، الأصدقاء، الأجهزة، وحتى الوقت. فلنُحسن الاستخدام، ولنُدرك أن دوام الحال من المحال، ولنُهيئ أنفسنا نفسيًا وروحيًا وذهنيًا لتقبّل هذه الحقيقة، عسى أن نعيش حياة متزنة، ونمضي في دربنا دون تعلق أو غفلة، فالدايم وجه الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com