مجازر الفاشر و تكرار الفشل الإنساني

بقلم / د. مؤنس شجاع
لقد تابع الكثير منا ما حدث ويحدث من مجازر بحق أهلنا وإخوتنا المدنيين بمدينة الفاشر في السودان الشقيق ، إن تلك المجازر والقتل الممنهج والمستمر الذي لا يفرق بين مدني وعسكري أو شيخ وطفل أو امرأة وما صاحبه من اغتصاب وحوادث يندى لها الجبين الإنساني شاهدنا الجزء اليسير منها عبر الفيديوهات التي كُتب لها الانتشار ومازال العديد منها مخفي أو لم يتم تصويره بالأساس ولكن المستغرب والذي يدعو إلى زيادة الاستنكار أن تصدر هذه الأفعال من أشخاص مواطنين تجاه إخوتهم المواطنين بل أنهم يتكلمون لغتنا بل و يدعون أنهم يدينون بديننا الإسلامي الحنيف !!
المملكة العربية السعودية ” مفاوضات جدة ”
ما أن بدأت الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل 2023م ، انطلقت مبادرة المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية لحل تلك الأزمة عبر عقد مفاوضات بين الأطراف المتنازعة في مدينة جدة يوم 6 مايو 2023م أي بعد أقل من شهر وما تلى تلك المفاوضات من عقد اتفاق جدة في 11 مايو نص على تحقيق وقف فعال لإطلاق النار قصير المدى و والعمل على تسهيل وصول المساعدات الطارئة والإنسانية ووضع جدول زمني للوصول إلى وقف كامل للأعمال العدائية وما تلاها من جولات في نوفمبر للأسف لم يكتب لها النجاح بسبب عدم الالتزام بالاتفاقات !!
الجدير بالذكر أن المملكة العربية السعودية أكدت خلال انعقاد اجتماع مجموعة المانحين لدعم مكتب الأمم المتحدة ” الأوتشا ” في أكتوبر 2024م على مستوى الخبراء بدعم المملكة بمبلغ 115 مليون دولار للسودان لتوفير مساعدات غذائية وخدمات طبية ومياه ومأوى للاجئين والنازحين بالإضافة إلى دعم المملكة مع الأمم المتحدة لتنظيم حدثا لجمعية الأمم المتحدة وبلدان أخرى لتوفير مبلغ خمسمائة مليون دولار لدعم السودان الشقيق بأزمته الإنسانية .
مجلس الأمن وإدانة حصار الفاشر سابقاً والفظائع لاحقاً
الإدانة عقب الإدانة فقد صدر قرار مجلس الأمن رقم (2736) لسنة 2024، الذي يطالب “قوات الدعم السريع” برفع الحصار عن الفاشر ويدعو إلى وقف فوري للقتال وخفض التصعيد في المدينة وما حولها ولكن للأسف لم يتم تطبيقه ، كما عُقدت جلسة قبل أيام جددت الإدانة للفظائع التي ارتكبها أعضاء قوات الدعم السريع مؤخراً وعبروا عن قلقهم البالغ إزاء تصاعد العنف في مدينة الفاشر ومحيطها بولاية شمال دارفور قفد بلغ تعداد القتلى بالألاف ونزوح أكثر من مليون إنسان للولايات المجاورة !
مجزرة المستشفى السعودي بالفاشر
للأسف إن الانتهاكات الإنسانية طالت حتى أعضاء الكادر الصحي للمستشفى الوحيد بالمدينة وهو المستشفى السعودي بالفاشر والذي وصفته الأمم المتحدة بأنه ” كارثة إنسانية كاملة ” حيث ذهب ضحيته أكثر من 460 قتيل غالبيتهم من المرضى ومرافقيهم وأن الأمم المتحدة مستاءة ومصدومة بشدة وشددت على ضرورة محاسبة الجناة وعدم تكرار ذلك !!
تأثير الشيطان يتكرر !
نعود مجدداً لمحاولة فهم هذه السلوكيات الإجرامية وكيف للإنسان أن يقتل أخيه الإنسان ومواطنه بل قد يقتل أقرب الناس إليه من جيران وأصدقاء في غياب تام للقيم والتعاليم الدينية والمعايير الإنسانية وضرب للقوانين والأنظمة الدولية بعرض الحائط ، في كتاب تأثير الشيطان للعالم النفسي الأمريكي البروفيسور زيمباردوا والذي درس به حالات بشكل مباشر لأشخاص شاركوا في التعذيب والقتل بعدة دول كان بها صراعات وكانوا ينفذون ذلك بحجة حماية المصلحة الوطنية ضد الأعداء الذين هم ” أبناء الوطن ” منذ ستينات القرن الماضي والسبعينات حتى أنه شارك في جلسات التحقيق بفضيحة سجن أبو غريب بالعراق والذي وصل خلاله إلى أننا أخطأنا في محاول فهم السلوك الإنساني المعقد بتسليط أدواتنا التحليلية على السمات الشخصية للفرد القاتل أو المعذب أو المغتصب في المقابل نتجاهل أهمية المؤثرات الخارجية من الظرفية والتسلسل القيادي في صناعة ذلك السلوك الإجرامي !
كيف يتحول الأخيار إلى أشرار!
لفهم ذلك علينا بداية أن نعرف ثلاثة حقائق وهي أن العالم مليء بالخير والشر وأن الحد الفاصل بين الخير والشر قابل للاختراق وضبابي وأن الأنسان الفاضل من الممكن أن يتحول إلى شرير وعليه فإن معرفتنا بأنفسنا تحدد وفق البيئة وتجاربنا والضغوطات الممارسة علينا وفقها ففي البيئات الاعتيادية من الممكن أن نملك السيطرة أو أن نقف عند حد معين ، ولكن ماذا يحدث لو زادت تلك الضغوط إلى حدود غير مسبوقة أو مهددة للشخص عندها ستعرف أنك من الممكن أن تظهر شخصية مختلفة تماماً فقد تتحول إلى شرير بالرغم من أيمانك بأنك شخص مسالم بل يكاد يطلق عليك ملاك على هيئة إنسان فالضغوط البيئية كساحة المعركة مثلاً وتعليمات القادة تحدد سلوك الفرد وقتها !!
التسلسل الهرمي وخلق بيئة عدائية هي السبب !
في كتابه تأثير الشيطان يبين البروفيسور زيمباردو أن النظام العامل هو المسؤول عن هذه المعضلة الأخلاقية والجرائم بقوله ” يسمى السلوك الإجرامي أو المنحرف من رجال الشرطة أو العسكر بأنهم التفاحة الفاسدة أي قلة والآخرين وهو يعني ضمنياً بأنهم استثناء نادر ” وبهذا يوضح لنا أن قيادات تلك الجهات هي التي تحدد الفاصل بين الفاسد والصالح بحيث يتم تحييد المشكلة وصرف اللوم بعيداً عن قمة الهرم في تلك القيادات والتي غالباً ما تكون هي السبب بذلك ، ولعلنا ما شاهدنا من تحويل المدعو ” أبو لولو ” أحد الجناة الذين تباهوا بتصوير جرائم الإبادة العرقية بحق مواطنيهم إلى التحقيق يبرز لنا تحليل البروفيسور زيمباردوا ، فالمدعو أبو لولو هل كان يعمل بمفرده أم ضمن مجموعات تنظيمية تابعة لقيادة الدعم السريع وهل كانت تلك القيادات لا تعلم أو توجه بمثل هذه التعديات والعديد من الأسئلة التي توضح لنا أن مسؤولية تلك الجرائم تتحملها المنظومة كاملة وليس شخص أو مجموعة أفراد ، بل برأيي أن المسؤولية تقع مباشرة على مجلس الأمن الذي باستطاعته لعب دور أكثر فعالية وحاسم في وقف تلك الأعمال الإجرامية ومنع تكرار الفشل الإنساني ؛ فالقتال بين جندي وجندي شي بينما استباحة دماء الأبرياء وأعراضهم والتعدي على المنشآت الطبية وكادرها شيء مختلف لا يقبله دين ولا خلق ولا يقره قانون دولي !!



