وَستَقبَلونَ أَقدَارَكُم بِرُوحٍ رَاضِيَة

للكاتب: د. عثمان بن عبدالعزيز آل عثمان
الحياةُ سفرٌ طويلٌ تتقاذف فيه الأيّامُ بين يدي القدر القادر، فما منَّا إلَّا من مضت به الرِّيح في مكانٍ لم يختره، أو نزل به حُكمٌ لم يستبقه. فإذا بالإنسان واقفًا أمام مفصلٍ مصيريٍّ: أَيقبل ما كُتب له بصدرٍ رحبٍ، أم يتقلَّب في سجنِ المرارة؟
هنا تأتي الحكمة النبيلة لتهدينا:
“وستقبلون أقداركم بروحٍ راضية”.
ليس الرضا استسلامًا للعجز، بل هو ارتقاءٌ بالرُّوح إلى عالمٍ أرحب، حيث يُصبح القلب مؤمنًا بأنَّ كلَّ مقدورٍ يحمل في طيّاته حكمةً إلهيّةً لن تُدركها العقول في لحظتها.
قال تعالى: ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، فهذه الكلمات تحمل بصرًا نافذًا لما وراء الأفق الضيّق الذي نراه.
إنَّ الراضي بقضاء الله ليس جبانًا ولا متهاربًا، بل هو الجبّار الحقيقي الذي ينتصر على أعظم أعداء الإنسان: القلق واليأس.
يُذكِّرنا الحديث القدسي: “أنا عند ظنّ عبدي بي”، فمتى استشعر العبد جمال الثقة بخالقه، أدرك أنَّ المحنة ممهدٌ لنعمة، وأن الظلمة مجرّد رحمٍ تلد نورًا.
لكن كيف نحاول أن نبلغ شاطئ الرضا؟
البداية أن نُغيّر نظرتنا للأحداث: فالرضا يتولّد من التفكّر في الحكمة التي تحتجب خلف القدر، والتدبّر في أنَّ ما يختاره الله لنا أصلح مما نختاره لأنفسنا.
ثمّ يأتي دور الصبر الواعي، الذي ليس كبتًا للمشاعر، بل تسليمًا مصحوبًا بسعيٍ وعمل.
فالراضي يبذل جهده كأنَّ الأمر كلّه بيده، ثم يتخلّى عن القلق كأنَّ الأمر ليس بيده!
ولنحذر من الوهم الذي يظن أنَّ الرضا يُلغي الأحزان الطبيعية؛ فقد بكى يعقوب على يوسف حتى ابيضّت عيناه، وناحت فاطمة عند موت أبيها، ولكنهم انكسرت قلوبهم بين يدي الرحمن لا بين يدي اليأس.
فالرضا هو أن تبكي وقلبك ينطق: “إنا لله وإنا إليه راجعون”، لا أن تبكي وقلبك يُردّد: “لولا أن فعلي كان كذا…”.
فإذا أردتَ حياةً خالصةً من سُمّ القلق، ورغبتَ سلامًا يغمر أعماق روحك، فتدرّب على فنون الرضا:
أطِلِ النظر في سجلّ نعم الله تعالى عليك، واحتسب أجر الصبر عند كلّ مصيبة، واذكر دائمًا أنَّ ما أخذه المولى لم يكن ليكون لك، وما منعه لم يكن ليصل إليك.
هناك، وفقط هناك، تستحق أن تقول بصدق:
“رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ رسولًا.”
فاليوم… وأنت تُقابل قدرًا ثقيلًا، أو تتذكّر ماضيًا أليمًا، أو تُراقب مستقبلًا مظلمًا:
تنفّس عُمقًا، وابتسم في وجه القضاء، وقل بشجاعة المؤمن الذي فهم سرّ الكون:
“حسبيَ اللهُ ونعمَ الوكيلُ.”