نجفيه حمادة
تنظر لقدميها وكأنها تنظر إليهما لأول مرة، تساقطت دموعها فأعاقت النظر، مسحت تلك الدموع بطرف قميصها الأبيض، ارتفعت شهقات متتابعة مكبوتة في صدرها، لبست عباءتها وهي ترتجف وتتسائل “لِمَ لم أرد؟! لِمَ لم أتكلم؟! ولِمَ لم أدافع عن نفسي؟!”
اعتادت مريم بحنانها الكبير أن تساعد الجميع من الأهل والأقارب، تجتمع في منزل أهلها يومين في الأسبوع مع أخواتها الثلاث دانة ونرجس ونور وهي أكبر منهن، تطبخ للجميع بحب ولم تشتكِ يومًا لأنها ترى أن في ذلك حبًا وقربًا واهتمامًا.
وفي صباح أحد الأيام حين كانت تتواجد في منزل أهلها لمساعدة ورعاية والدتها المريضة جاءت لها لجين زوجة أخيها خالد: “يا مريم هل يمكنك أن تساعديني في ترتيب أثاث شقتي؟ فلديك ذوق رائع في الترتيب” فرحّبت مريم وذهبت معها لمساعدتها، وعند الانتهاء شكرتها لجين وقالت لها: “لدي طلب آخر فلدي موعد خارج المنزل ولكن ابنتي الصغيرة نائمة، فهل يمكنك الاعتناء بها لحين عودتي؟” فأجابتها مريم: “لا تقلقي اذهبي وسأعتني بها”، فانشغلت مريم بالطبخ تارة والصعود للاطمئنان على ابنة أخيها بين الفينة والأخرى إلى أن استيقظت وأحضرتها معها للمطبخ لتكمل مهامها.
وفجأة وبينما كانت مريم منشغلة في المطبخ دخل أخوها خالد غاضبًا: “ما هذا الحقد يا مريم! يا ويلك من الله، الله يأخذك والحمد لله الذي حرمك من الأطفال، هذا الذي تستحقينه”، سمعته والدتها المتعبة فخرجت من غرفتها منادية: “ما بكما؟!” فقال خالد: “دخلت غرفة نومنا لأطمئن على ابنتي ولكني وجدت هذا السحر أسفل السرير، ماذا تنوين على فعله يا مريم؟!” أخذ ابنته، ومريم في ذهول وصدمة ووالدتها بجانبها تحتضنها: “ما بك يا مريم؟ ردي!”، ذهبت راكضة إلى غرفة الضيوف وجلست واضعة رأسها على ركبتيها وتفكر بما حدث وبعد لحظات همّت مسرعة إلى سيارتها لتتوجه إلى بيتها.
أتت لمنزلها مكسورة، متألمة، وأفكارها مبعثرة، رمت بنفسها على سريرها، خارت قواها، وهي تتسائل: كيف لهم أن يفكروا هكذا؟! عاد زوجها أحمد من عمله فتفاجأ برؤية سيارتها، دخل المنزل وهو يناديها: “أميرتي مريم أين أنتِ؟” فلم تجبه، أحسّ قلبه أن أميرته المدللة حزينة فركض لغرفة النوم ليراها تبكي، فلما رأته رمت بنفسها في أحضانه وهي تقول: “ما بال هذا العالم؟! هل من المعقول أن يظنوا بي سوءًا هكذا؟”، مسح دموعها وهو يطمئنها: “غاليتي، أنا معك، وأعرف قلبك، هذا هو المهم”.
زواجهما الدائم لسبعة عشر عامًا كفيل بمعرفتهما لبعض من نظرات العيون وزفرات الأنفس وتخاطر الأرواح، فحكت له القصة كاملة فطلب منها أن تقوم لتصلي ركعتين وقال لها: اجعلي نيتك خالصة لله غاليتي فعلى نياتكم ترزقون، قامت لتصلي وتدعو الله براحة البال وظهور الحق وحين انتهت رمقت بعينيها أحد كتب مكتبتها المتواضعة في طرف صالة المنزل والمعنون بـ”كوني قوية”، اقتربت من المكتبة وتناولت الكتاب وجلست تقلب صفحاته بتأثر واضح، نام أحمد وهي لا تزال منهمكة ومشدوهة بتلك الكلمات التي يحويها هذا الكتاب، وكأنها تنتقل بروحها من غيمة إلى غيمة، تتناثر العبارات وكأنها زخات مطر تثلج قلبها الكسير من سهام كلمات أخيها، ومع بزوغ الفجر انتبهت أنها وصلت لآخر سطر من ذلك الكتاب، أغلقته وهي مبتسمة وتردد “لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا”، صلّت صلاة الفجر وأجلست أحمد ليصلي ويذهب لعمله وتذهب هي لجنّتها لتعينها.
ذهبت لوالدتها فرأتها على سجادتها تدعو فلما رأت مريم قالت لها: “ظلموك يا ابنتي ولكن تسجيل الكاميرا أظهر الحق”، حيث إن خالد وضع كاميرا خاصة لمراقبة ابنته ولما عاد إلى التسجيل اكتشف أن العاملة هي من وضعت ذلك السحر، فاتصل بالشرطة وقبضت عليها، انشرح قلب مريم وقالت: “الحمد لله ولكن ظن السوء مؤلم يا أمي ويكسر الروح، فأنا حينها قلت بأنني لن أدخل هذا المنزل مرة أخرى”، وأضافت: “ولكن قرأت كتابًا عزّز ثقتي بنفسي وكسر حاجز خوفي وذكّرني بقلبي ونيّتي، والحمد لله الذي ألهمني وجعل في طريقي هذا الكتاب لأعود إلى رشدي”.
دخل خالد باكيًا: “أنا آسف يا أختي الغالية”، وكذلك دخلت زوجته معتذرة: “سامحينا يا مريم”، فردت عليهما “أنا أحبكما ومستحيل أن أضركما فكيف بكما الظن بي والتفكير هكذا؟!”، احتضنها أخوها وجاءت أخواتها مجتمعات وتساءلن: “ما بكم؟!”، فقالت مريم: “الحمد لله انكسرت وأنقذني كتاب”، ضحكت أخواتها باستهزاء “كتاب؟!” فقالت لهم مريم: “نعم، ما رأيكم تجربة قراءة هذا الكتاب؟ حلّقوا بصفحاته علّكم تجدون ما يريح أرواحكم، فلا بد أن أرواحكم منشغلة بأمرٍ ما والكمال لله وحده، وفي الأرض كافة السبل وضعها رحمة لنا، صحيح أنه كتاب ولكنه أحد السبل، فلولا هذا الكتاب لم أعد اليوم قوية وواثقة والحب في قلبي فهو منقذي، أعادني إليكم لأقوى بكم وبينكم.
عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة، بين زوايا كل مكتبة هناك كتاب لروحك وغذاء لعقلك لعلّه ينقذك من سقوطك وينتشلك من ظلام أفكار هادمة، حلّق معه نحو الإيجابية والتطور، وإن لم يسطع بكلماته في فؤادك ويخلق أثرًا سيدلّك على ذلك يومًا، واجعل القراءة عادة فهي بوابة العظماء.