التكنولوجيا التي تتنبأ بنا: هل نحن ما نصنعه أم ما يصنع بنا؟

بقلم / الدكتورة فاطمة اغبارية
في صباحٍ يبدو عاديًا، يفتح أحدنا هاتفه ليجد إعلانًا يطالعه بشيء لم يفكر فيه إلا قبل دقائق. نبتسم بدهشة، ثم نمرّر الشاشة وكأن شيئًا لم يكن. لكن خلف تلك الدهشة العابرة تختبئ حقيقة أكبر: هناك من يعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا… وربما يتخذ قرارات قبل أن نقرر.
لقد صارت التكنولوجيا مرآتنا المصقولة، لكننا لا ننتبه أحيانًا إلى أنها ليست مرآة تعكس فقط، بل مرآة تفكر، وتتذكر، وتتوقع. من توصيات الأفلام إلى تفضيلات التسوق وصولًا إلى اقتراحات الأصدقاء، تتشكل حول كل واحد منا “فقاعة شخصية” صنعتها الخوارزميات بدقة مدهشة، بحيث يصبح ما نراه انعكاسًا منسجمًا تمامًا مع ما فعلناه أو ما قد نفعله.
هل ما زلنا نختار، أم تُختار لنا الطرق مسبقًا؟
لقد أصبح سلوك الإنسان الآن مادة خام، تُحلَّل وتُقاس وتُفكَّك ثم يُعاد تشكيلها في صورة مقترحات: ماذا نقرأ، ماذا نرتدي، ماذا نستمع، بل وأي نوع من الأشخاص قد نُعجب بهم.إنّ كل نقرة، كل توقف لثوانٍ أمام صورة، كل بحث عابر، هو رسالة تبني خوارزمية واسعة من التوقعات.
قد تبدو الخدمة مريحة—نظام يعرف ذوقك ويقدم لك ما يناسبك—لكن الراحة الدائمة تحمل سؤالًا خفيًا:
هل يصبح الإنسان أسيراً لنسخة صنعها عن نفسه في الماضي؟
الخوارزميات لا تنظر إلى قلوبنا… بل إلى عاداتنا
ما لا تدركه التكنولوجيا هو دواخلنا، تحولاتنا الداخلية، تلك الرغبة المفاجئة في سماع موسيقى لم نعتدها، أو قراءة كتابٍ خارج نطاق اهتماماتنا.
الخوارزميات، مهما بدت ذكية، تعتمد على ما فعلناه، لا على ما نرغب في أن نصبحه.
لذلك قد نجد أنفسنا محاصرِين بذوقٍ قديم لا يشبه نسختنا الجديدة.
تمامًا كما لو أننا نكرر حياةً ليست لنا، فقط لأن التكنولوجيا ما زالت تظن أن هذا هو ما يعجبنا.
الإنسان الذي ينقلب على توقعاته
من أروع ما في البشر هو قدرتهم على المفاجأة.
فجأةً، يقرر شخص يعمل في مجال الأعمال أن يدرس الفلسفة.
أو تستيقظ امرأة بعد سنوات من الروتين لتقرر أن ترسم، رغم أن هاتفها يقترح عليها وصفات طبخ فقط.
أو يختار شابٌ أن يقرأ الشعر الصوفي بعدما أغرقته المنصات بمحتوى رياضي.
هذه القفزات الإنسانية الصغيرة لا تستطيع التكنولوجيا توقعها دائمًا، لأنها ليست مجرد نمط، بل شرارة.
هل نحن ما نصنعه… أم ما يصنع بنا؟
السؤال الكبير يظل معلقًا:
نحن من اخترع الذكاء الاصطناعي، ولكن هل أصبح هو من يعيد تصميم طريقة تفكيرنا؟
الحقيقة أن العلاقة أصبحت تبادلية:
•نمنحه بياناتنا، فيمنحنا بدائل محسوبة.
•نعلّمه ما يعجبنا، فيعلّمنا ماذا يمكن أن يعجبنا غدًا.
•نبحث فيه عن إجابات، فيعيد تشكيل الأسئلة نفسها.
إنها دائرة تأثير متبادلة، لكنها خطرة إذا فقد الإنسان زمام المبادرة.
كيف نعيد لأنفسنا مساحة الاختيار؟
ليس المطلوب هجر التكنولوجيا، بل إدارتها بوعي.
جرب أن تقرأ محتوى غير مألوف.
أن تستمع لنوع موسيقى لم يسبق لك.
أن تفتح نافذة جديدة على شيء لا تقترحه لك الخوارزميات.
كُن أنت من يربك التكنولوجيا… لا العكس.
وفي النهاية…التكنولوجيا لم تعد أداة، بل شريكًا غير مرئي في اتخاذ القرار.
لكن يظل الإنسان قادرًا على فعل ما لا يمكن توقعه، على اختراق أنماطه وتجاوز حدوده وصناعة مسارات جديدة.
قد تتنبأ التكنولوجيا بنا… لكنها لا تستطيع أن تمتلكنا إلا إذا تركنا لها ذلك.
فمن نحن حقًا؟ ما نصنعه بأيدينا؟ أم ما تصنعه فينا الآلات؟
ربما يكون الجواب في تلك اللحظة الصغيرة التي نقرر فيها أن نفعل ما لا تتوقعه أي خوارزمية



