الأسرة.. منبع الشحناء حكايات التشتت تحت سقف واحد

بقلم الإعلامي:صالح المحجم
الأسرة هي الخلية الأولى للمجتمع، والمفترض أن تكون الملاذ الآمن وواحة الدفء. لكن، عندما ينحرف مسار هذه الخلية بسبب ركائزها الأساسية – الوالدين – تتحول إلى بؤرة للشقاق، ومصنع لتشتيت الأبناء وزرع الشحناء والبغضاء بينهم.
إن التكوين الخاطئ للأسرة، حيث يغلب المال والنزوات على الرعاية والحنان، يخلق جرحًا عميقًا في نفوس الأبناء يصعب شفاؤه.
الأب الغائب – الحاضر: المال قيدًا للبر
في هذا النموذج الأسري، نجد الأب يغرق في دوامة تشتيت الذات قبل تشتيت الأبناء. انشغاله يتجاوز حدود السعي المشروع ليصبح هوسًا بـ “جمع المال من هنا وهناك، بالحلال أو بالحرام”، مصحوبًا بـ تعدد الزيجات كدليل على التمركز حول الذات. لكن الخطر الأكبر يكمن في تحويله مفهوم البر إلى “سلعة مقنّعة”؛ حيث “يربط بره بالمال”، فـ “من يدفع أكثر هو البار”، وهي معادلة مدمرة تُفسد أقدس العلاقات.
وتتجسد القسوة في ذروتها عندما يُطرد الابن البكر، وهو في عمر الرابعة عشرة، ليواجه قسوة الشارع والحياة وحيدًا لأربع سنوات عجاف. هذا الطرد هو بمثابة إعلان رسمي لتخلي الوالد عن دوره الأساسي. وعندما يعود هذا الشاب، بعد سبع سنوات من الغياب والانقطاع، وقد أصبح “مقتدرًا ولديه راتب” من عمله في السلك العسكري، لا يجد حضن الأب، بل يجد مساومة باردة وتهديدًا معلبًا: إما دفع جزء من الراتب، أو التشهير به بين الأقارب والعشيرة بـ “تهمة العقوق”.
هذا السلوك يدمّر مفهوم الأبوة، ويحولها من مسؤولية ورعاية إلى ابتزاز عاطفي ومادي. الأب هنا لا يطلب العودة، بل يطلب “ثمن العودة”، مستغلًا سلطته الأبوية وخوف الابن من الوصم الاجتماعي ليفرض سيطرته المادية، مما يكرس فكرة أن قيمة الابن لا تتجاوز قيمة محفظته.
الأم الحائرة: نوايا طيبة بآثار هدامة
أما الأم، ورغم أنها قد تكون أقل قسوة في الظاهر، إلا أن تدخلها يساهم في تعميق الشرخ بين الأبناء. إنها تحاول بـ “نية التوفيق” أن تطفئ الخلاف، ولكن بطريقة خاطئة ومضللة. فهي تذهب إلى طرف وتخبره بأنه “غلطان”، ثم تذهب إلى خصمه من إخوته وتقول له الشيء نفسه، في محاولة فاشلة منها لـ “خلق توازن زائف” أو إنهاء فوري للنزاع.
هذه الطريقة تخلق أسوأ أنواع العلاقات: “عداوة وبغضاء تحت غطاء المجاملة”. الأبناء، بدافع الخوف من غضب الأم أو إرضائها، أو حتى كبتًا للواقع المؤلم، “يجاملون بعضهم أمامها”، بينما تغلي صدورهم بالحقد والفرقة. الأم، بدون قصد، أجبرتهم على النفاق الاجتماعي والعاطفي داخل البيت، وحرمتهم من فضيلة الصدق في التعبير عن مشاعرهم وحل خلافاتهم بطريقة سليمة. لقد نجحت في إسكات الضجيج الخارجي، لكنها فشلت في إخماد النيران الداخلية، وحكمت على أبنائها بالعيش في قفص من العداوة المقنّعة.
النتيجة: أسرة مشتتة وروح محطمة
النتيجة النهائية لهذا التكوين الخاطئ هي أسرة تعيش في حالة انفصال عاطفي وجداني حاد. الأب حول البر إلى صك مالي، والأم حول التوفيق إلى مجاملة قسرية. الأبناء يكبرون وهم يحملون عبئًا ثقيلًا من الجراح والذكريات المؤلمة والعداوات المتبادلة. إنهم ضحايا لـ أبوين فشلا في فهم جوهر الأبوة والأمومة، والتي هي قبل كل شيء: احتواء، وعدل، وحنان غير مشروط.
إن علاج هذه الأسرة يبدأ بالاعتراف بأن المال ليس مقياسًا للبر، والضغط ليس أساسًا للوئام. يجب على الأب أن يستعيد دوره كحامٍ وراعٍ ومُحب، وأن يتوقف عن الابتزاز. وعلى الأم أن تتعلم أن التوفيق لا يتم بالكذب على الطرفين، بل بالجلوس معهم، وتطبيق العدل، وتوجيههم لفض خلافاتهم بشفافية واحترام. فالأسرة التي لا تقوم على الحب والعدل، لا يمكن أن تكون إلا محضنًا للشحناء والتشتت.



