الأمير تركي الفيصل يفتتح النسخة الثالثة من أيام “المروية العربية”

الرياض: فهد السميح
افتتح صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل، رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، أمس الأحد حفل افتتاح النسخة الثالثة من أيام المروية العربية التي ينظمها المركز وتستمر لمدة يومين. وجاءت هذه النسخة امتدادًا لمسار معرفي يسعى إلى إعادة بناء السردية العربية ضمن أفق نقدي يستعيد عناصر القوة في الثقافة العربية والإسلامية، ويركّز على الأطر التي شكّلت الذات العربية الثقافية والحضارية، وعلى الأطر التي تشكّل معرفة الإنسان العربي بنفسه وتاريخه ومجتمعه، ويربط هذا المسار بمشروعات المركز البحثية في التراث والفكر والفنون.

وأكد الأمير تركي الفيصل في كلمة الافتتاح أن الحسّ الجمالي العربي وُلد من “صمتِ الصحراء العربيّة حيثُ صفاءُ الأفق ميزان للعين”، وأن التجربة الأولى للجمال خرجت من تلك اللحظةالمبكرة التي تجسّدت في “صوتٍ يُتلى، وكلمةٍ تُكتب، واتجاه تضبط به الجهات”.
وأشار سموّه إلى أن الفنون العربيةوالإسلامية وجدت معيارها الأعلى في قول الله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَاالإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾، وهو المبدأ الذي يجعل “حسن التقويم” أساسًا لإعادة العناصر إلى نِسَبٍ فاضلة وإلى إيقاع عصري يستلهم العقل.
وتناول سموّه اللحظة التأسيسية التي ارتقت فيها العربية بظهورالوحي، مشيرًا إلى أنه “حين تَجلَّى الوحيُ في أرضِ العرب،وانشقَّ الأفقُ لصوتِ السماء؛ تغيَّر ميزانُ الحسِّ، وارتقتِ اللغةُإلى طبقةٍ تُمازجُ بين الجلالِ والجمال”.

وأوضح أن هذا التحول بداء مع نزول القرآن الكريم حين “أُخِذ العربُ بسحرِ بيانه”، ومع تعاظم مكانة الكتابة “تَحوَّل الخطُّ العربيُّ إلى وعاءٍ لكلامِ الحقِّ – جلَّ وعلا – فبدأتْ رحلةُ الفنِّ العربيِّ الإسلاميِّ في تشكُّلٍ هادئ عميق”. ومن هذه البدايات “ظهرت المصاحفُ العثمانيةُ في خطوط مدنيّةٍ مُبكِّرة… ليُعلن ميلادَ صنعةِ المصاحفِ الشريفة، أوميلادَ الفنِّ العربيِّ الإسلاميّ”، حيث تداخلت الكتابة والهندسةوالزخرفة كأدوات كاشفة عن عمق التجربة الجمالية العربية.
وأشار الأمير تركي الفيصل إلى أن هذا الفن – في عمقه – لم يكن انعزالًا عن العالم، بل انفتح على أثر الفرس والروم والبيزنطيين والهنود، ثم أعاد تشكيل تأثيراتهم داخل نسقٍ توحيدي لا يذيب الاختلاف ولا يقصيه. وامتد هذا النسق ليشمل العمارة والمخطوطات والمنسوجات، حيث تتعدد اللهجات الفنية ولكنها تتوحد في رؤية روحية واحدة.
وأوضح سموّه أن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية حمل هذه الرؤية منذ تأسيسه، فحوّل كنوزه ومقتنياته إلى «مروية عربية» تُقرأ عبر الفن والمعرفة، وجعل من معارضه – من “وحدة الفن الإسلامي” إلى “أسفار: كنوز مركز الملك فيصل” – تجارب حيّة تسائل التاريخ وتعيد تشكيل علاقة الجمهور بالتراث. وأكد أن التعاون مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم يعكس هذا التوجّه، ويؤسّس لشراكة معرفية تعيد الاعتبار للسردية العربية عبر برامج «المروية العربية».
ونوّه الدكتور محمد ولد أعمر، المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، في كلمته، بالمكانة التي يحتلها مركز الملك فيصل باعتباره منارة للبحث العلمي في العالم العربي، مؤكدًا أن انعقاد أيام «المروية العربية» يتوافق مع رؤية المنظمة في صون التراث العربي وتحصين حضوره في الوعي الحديث، وأن المشروع يشكّل خطوة محورية في إعادة بناء المروية العربية على أسس نقدية تستعيد الحضور الحضاري للعرب عبر تاريخهم العلمي والفكري، وتربط بين الإبداع واللغة والهوية ومسارات التحديث.
وتأتي النسخة الثالثة امتدادًا للنسخة الأولى من «المروية العربية» التي عُقدت في شعبان 1444هـ (فبراير 2023م)، وتركّزت على نقد المروية الكلاسيكية واستجلاء رحلة انتقال العلوم من العرب وإليهم، مؤكدة أن استعادة الدور الحضاري تبدأ من وعي الأمة بتاريخها وذاتها، وكذلك النسخة الثانية التي عُقدت في شوال 1445هـ (مايو 2024م)، وأعادت قراءة ثقافة الصحراء بوصفها الذاكرة الأولى التي تشكّلت فيها اللغة والخيال والقيم، مستندة إلى إرث دراسات البداوة وجهود روّادها في توثيق الحياة الصحراوية وطبقاتها الثقافية.
وبهذا المسار المتصل، تمضي النسخة الثالثة في ترميم السردية العربية وتعزيز حضورها في الوعي المعاصر، عبر بناء جسر بين التراث والبحث العلمي ومختبرات الفن والمعرفة، بما يعيد تأكيد موقع الثقافة العربية في المشهد الحضاري العالمي.



