حين تتحول الفاجعة إلى استعراض

بقلم: شروق عبدالله الأحمري – الرياض

في لحظات الفقد الحقيقي يتقدّم الصمت على الكلام، وتنخفض العيون قبل الرؤوس، ويشعر الإنسان — ولو لثوانٍ — بصِغر الدنيا أمام هول الرحيل.
هكذا تعلّمنا، وهكذا تربّت القلوب السليمة، لكن ما نراه اليوم يقول شيئًا آخر تمامًا؛ يقول إن الكاميرا صارت أسرع من الدمع، وإن الهاتف بات أسبق من اليد التي يُفترض أن تُمدّ للمصاب أو تُرفع بالدعاء للميت.

خلال حادثة مؤلمة هزّت المجتمع، لم تكن الصدمة في الفقد وحده، بل في الطريقة التي جرى بها التعامل معه.
رأينا مصابين يُصوَّرون في أضعف حالاتهم، وعدسات تُسلَّط على أجساد أنهكها الألم، وكأن المعاناة مشهد لا بد من توثيقه. ورأينا ما هو أبعد من ذلك: متوفّى — رحمه الله — يُصوَّر وهو لا يزال في سيارته قبل نقله إلى المستشفى؛ جسد غادرته الروح ولم تغادره الكاميرات.

هنا لا يعود السؤال عن الخطأ، بل عن غياب الإحساس، وعن تلك المسافة المرعبة التي صارت تفصل الإنسان عن إنسانيته.
ثم يظهر بعض المشاهير لا ليخففوا وقع المصاب، بل ليضيفوا إليه طبقة أخرى من القسوة.

زيارة مريض تتحول إلى مشهد مصوَّر، ووقوف عند قبر يصبح لقطة مُعدّة بعناية: أناقة كاملة، ووقفة محسوبة، ويد مرفوعة بالدعاء، وعدسة خلف الكتف تلتقط اللحظة من الزاوية «الأجمل»، كأن الدعاء لا يُقبل إن لم يُنشر، وكأن الخشوع يحتاج جمهورًا ليُصدَّق.

لنقلها بوضوح لا يحتمل التأويل: هذا ليس تعاطفًا، ولا مشاركة وجدانية، ولا نقلًا للحدث؛ هذا استعراض فجّ للمأساة، وتجارة بالألم العام، وتوظيف رخيص للحزن في سباق التفاعل.
من يريد الدعاء فليدعُ في الخفاء، ومن أراد المواساة فليواسي بصمت، أما من يرفع هاتفه في لحظة الفقد فهو لا يحترم اللحظة، بل يستثمرها.

الأخطر أن هذه السلوكيات حين تصدر من أصحاب جماهير واسعة لا تتوقف عند حدودهم، بل تعيد تشكيل الذائقة العامة؛ تُعلّم الناس أن كل شيء قابل للتصوير، وأن الخصوصية رفاهية، وأن الموت نفسه يمكن أن يتحول إلى مادة نشر.

حماية كرامة الإنسان ليست خيارًا، وصون حرمة الموت ليس رأيًا، بل مسؤولية نظامية وأخلاقية لا تقبل التهاون.

القبول الحقيقي لا يُصنع بالظهور في المآسي، ولا يُستجدى بصورة عند قبر، ولا يُفرض بعدسة؛ القبول يُمنح لمن احترم اللحظة وغاب عنها، لا لمن اقتحمها بكاميرته.

المصاب يحتاج يدًا صادقة، لا عدسة متطفلة، والمتوفّى يحتاج دعاءً خفيًا لا صورة متداولة.
والمقابر خُلقت للخشوع لا للاستعراض، والإنسان — حيًا كان أو ميتًا — أكرم من أن يُختزل في محتوى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى