حديث لم يطل… وأثره لم ينتهِ

فاطمة إبراهيم البلوي تبوك
كنتُ في المستشفى…
أحمل جسدًا مُنهكًا..
وروحًا أثقلتها المهام..
وذاكرةً مزدحمةً بمراحل المرض..
من بدايته إلى تعقيداته إلى أمراضٍ أخرى تراكمت كأنها اختبارات صبر متتالية…
كنت أمشي بين الممرات لا بقدمي فقط بل بكل ما مررتُ به..
كل ذكرى كانت تمسك بيدي..
وكل ألم كان يسبقني بخطوة..
دخلتُ الصيدلية لصرف الأدوية
وجلستُ في الانتظار…
وهناك…
لم تكن العيون عادية..
كانت ممتلئة بالحزن..
بالشرود..
بالألم الصامت..
كل واحد يحمل قصته على كتفيه..
ولا أحد يتكلم..
لكن الوجع كان حاضرًا في كل نفس..
وفجأة…
انشقّ الصمت..
صوتٌ دافئ..
مريح..
حديث رجلين كبيرين في السن
حديث بسيط…
لكنّه كان كافيًا ليوقظ الحياة في المكان..
لم يكن كلامهما فلسفة..
ولا شكوى..
كان ضحكة خفيفة..
تعليقًا عابرًا..
نبرة رضا..
لكن الأثر كان عظيمًا..
كأن الهواء تغيّر..
كأن الأرواح رفعت رؤوسها..
كأن الحزن تراجع خطوة إلى الخلف ..
رأيتُ الوجوه…
العيون التي كانت منطفئة بدأت تلمع..
الشفاه التي نسيت الابتسام تذكرتها فجأة..
كلنا كنا نستمع..
كأننا نخاف أن ينتهي الحديث..
كأننا نتمسك به لأنه يمنحنا شيئًا نحتاجه
تمنيتُ لو طال الحديث..
لو بقينا طويلًا نستمع..
لو ظلّت تلك البساطة تتكلم..
وتلك الطمأنينة تملأ المكان..
ما أجمل كبار السن…
ما ألطف حضورهم..
وما أصدق حديثهم..
في كلماتهم حياة..
وفي ضحكاتهم بركة..
وفي وجودهم درس لا يُقال بل يُشعر..
وفي تلك اللحظة…
اشتقتُ لأبي…
اشتقتُ لضحكته..
لصوته..
لوجوده الذي كان يملأ الفراغ دون أن أشعر..
جاءني الشوق بابتسامة لكن الدموع كانت أقرب..
ابتسامة ممزوجة بالحزن..
وحنين يوجع لكنه دافئ..
تمنيتُ وجود أبي هناك..
أن يكون واحدًا من هؤلاء الرجال..
أن أسمع صوته بينهم..
أن أراه يصنع الحياة بكلمة..
موقف بسيط…
لكنه صنع في قلبي سموًّا ووداعة..
وفي روحي حياة..
وفي عقلي تأملًا طويلًا..
وفي مخيلتي سيناريوهات مليئة بالمشاعر الصادقة..
شوق وألم وفرح وسعادة…
موقف بسيط…
رسم أجمل ابتسامة على شفتي
منذ أن مات أبي..
موقف بسيط…
كشف لنا الإنسان الحقيقي الذي لا يحتاج تصنّعًا ولا قسوة..
ويفضح الآليّ بلا مشاعر..
الذي نراه كثيرًا ونفتقد معه الإحساس..
حديث عابر بين رجلين كبيرين..
كان درسًا للجميع..
في الصبر..
وفي الأمل..
وفي الاحترام المتبادل..
وفي كيف تكون إنسانًا رغم التعب..
حديث انتهى
لكن أثره لم ينتهِ…
ولعل الدروس مع كبار السن لا تنتهي
فكل موقف معهم عصمة..
وكل كلمة حكمة..
وكل صمت معنى..
أما أنا…
فخرجتُ من الصيدلية
وأنا أحمل أدويتي بيدي..
وأحمل أبي في قلبي..
وأحمل يقينًا أن الحياة قد تعود أحيانًا
بكلمة…
وبابتسامة…
وبوجودٍ صادق
لا يطلب شيئًا
سوى أن يكون….



