العولمة وحماية الهوية الثقافية الوطنية

د.آدينه أحمد سعيدزاده
استاذ بجامعة طاجيكستان القومية
لقد هيمنت الثقافات القوية على امتداد تاريخ البشرية باستمرار على الثقافات الصغيرة والضعيفة، وامتصّتها تدريجيًا، وهو ما يُعدّ ظاهرة طبيعية في مسار التاريخ. وعندما ننظر إلى التاريخ العالمي، يتبيّن أن تفاعل الثقافات ينشأ، في المقام الأول، نتيجةً لاحتكاكها بعضها ببعض. في مرحلةٍ من مراحل التاريخ، تبرز دولةٌ قوية فتفرض سيطرتها على دولٍ أخرى، وبذلك تُسهم في توسيع مسار العولمة؛ إذ تتقارب الشعوب والقوميات، وتتداخل الثقافات، ومن جهةٍ أخرى تندمج الثقافات الصغيرة الموجودة بين الشعوب والجماعات المحدودة تدريجيًا في الثقافات الكبرى، لتغدو عنصرًا من عناصر ثقافةٍ جامعةٍ كبرى. وإذا ما نظرنا إلى الأمر بصورةٍ شاملة، فإن جميع الثقافات الصغيرة في إطار العولمة تُشكّل أجزاءً لا يتجزأ من الثقافة الإنسانية المشتركة.
ومن هنا تبرز الأهمية البالغة لصون هذه الثقافات والحفاظ عليها بوصفها منجزاتٍ حضارية للبشرية جمعاء.
نستطيع اليوم، بالاستفادة من منجزات العلم والتقنية، دراسة القضايا الإنسانية العامة وبحثها وتوثيقها وحفظها للأجيال القادمة. وبناءً على ذلك، فإن جمع التقاليد والعادات المحلية في مختلف المناطق، وتصنيفها وتوثيقها من قِبل الباحثين، يُعدّ أمرًا بالغ الأهمية لضمان انتقالها إرثًا إلى الأجيال المقبلة. في ظلّ الظروف الجديدة للعولمة، حيث تتداخل الثقافات وتتقاطع المجالات الحضارية، يصبح التعرّف إلى هذه الثقافات، ومعرفة منجزاتها الثقافية والحضارية، والاطّلاع على لغات هذه الشعوب، أمرًا بالغ الأهمية.
إذا رغبنا في الوصول إلى القومية الواعية، فعلينا أولاً إتقان لغتنا الأم، والتعرّف على عناصر ثقافتنا، والقدرة على عرضها والترويج لها عند التواصل مع ممثلي الشعوب الأخرى، ومن جهةٍ أخرى، الاطّلاع على تاريخ وحضارة تلك الشعوب.أي أنّ دراسة ومعرفة اللغات الأخرى في إطار لغتنا الوطنية أو لغتنا الأم أمرٌ بالغ الأهمية. ومن هنا، فإنّه من الضروري أن يكون الشباب، الذين يدرسون اليوم في الكليات والجامعات المرموقة وفي ظروف مواتية، نشطين في المجالات الحيوية للعلاقات الرسمية مع الدول الأخرى.
أي أنّ دراسة الثقافة والحضارة واللغة وسياسات الدول في العالم، ولا سيّما الدول العظمى، أمرٌ بالغ الأهمية لتقدّم كل دولة في المستقبل. ومن جهةٍ أخرى، فإن مرحلتي الثورة العلمية والتقنية – في القرن الماضي واستمرارها في القرن الحادي والعشرين – تستدعي أن يكون المتخصّصون في مختلف المجالات على درايةٍ كاملة بجميع الإنجازات التقنية، وأن يتعلّموا كيفية استخدامها، ويستفيدوا منها على المستوى المهني. ومن الواضح أنّ الظروف الحالية توفر فرصًا مناسبة لدراسة مثل هذه الإنجازات العلمية والتقنية. والأهم من ذلك هو اكتساب المعارف التقنية وتطبيقها عمليًا.
في ظلّ العولمة، من الضروري أن ندرس منجزاتنا التاريخية، ونروّج لمحتواها وقيمتها الثقافية، ونعرّف بها الناس، بحيث تصبح هذه العناصر الثقافية التي تشكّلت على مدى آلاف السنين واسعة الانتشار، ليتمكّن المجتمع المدني من الاستفادة منها والترويج لها، وتقديمها للعالم كقيم ثقافية وطنية، والأهم من ذلك حمايتها. وهذا يُعدّ المسألة الأساسية للثقافة في سياق العولمة.
اليوم، تبثّ وسائل الإعلام المختلفة جميع أنواع الدعاية والترويج، مع مراعاة المصالح الجماعية لبعض الدول. ومن الأهمية بمكان، خصوصًا، التصدي للتأثيرات السلبية للثقافات الأجنبية.تُكلَّف المؤسسات الثقافية ووسائل الإعلام، بما في ذلك التلفزيون والإذاعة والشبكات الاجتماعية، بمسؤولية تعزيز القيم الأخلاقية في المجتمع، وتشكيل الفكر الإبداعي والبنّاء لدى الشعب، والاعتزاز بالقيم الثقافية الوطنية والعالمية، والسعي لحل القضايا المذكورة أعلاه.
ويتجلّى ذلك، أولاً وقبل كل شيء، في حماية الوعي الوطني، ورفع مستوى المعرفة والثقافة العامة لأفراد المجتمع، والحفاظ على التراث القيم للأمة، وعرضه بصورة لائقة للعالم. وما علينا سوى القيام بذلك بوعيٍ صحيح، وبحوث دقيقة، وبشكل يليق بالموضوع أمام العالم. لقد شملت العولمة كافة فئات المجتمع.
وأسهمت الإنجازات العلمية والتقنية في القرن العشرين في تقريب الشعوب في جميع أنحاء العالم. ومن جهةٍ أخرى، نحن في القرن الحادي والعشرين على أعتاب عولمة جديدة. فاليوم، تمتلك الإنجازات العلمية والتقنية، ولا سيّما الأجهزة الإعلامية، قدرات هائلة تجعل الحدود السياسية غير قادرة على عرقلة استعادة العلاقات بين الشعوب والأمم.نشهد اليوم أنّ أي خبر في منطقة ما من العالم ينتشر فورًا على الصعيد العالمي. أي أنّ مبدأ أو أسلوب العولمة في الظروف المعاصرة يعمل بطريقة تجعل البشرية اليوم أمام حالة من التلاقي، حيث تتقارب الثقافات وتندمج، لتتشكل في النهاية ثقافة عالمية جامعة وكاملة.
بالطبع، في هذا السياق، تبرز رسالة المثقفين بشكل بارز، إذ إن جميع الأعمال والإنجازات الثقافية التي نمتلكها اليوم هي ثمرة جهود وإبداعات المثقفين. فالمثقفون هم الذين يكتبون الأعمال، ويبدعون التحف الفنية، ويعرّفون العالم بالوجه الثقافي لكل أمة. وأنا على يقين بأن المثقفين في هذه المرحلة التاريخية هم بالفعل رايات الثقافة والحضارة، ويقدمونها للعالم بطريقة لائقة ومشرفة، وبأسلوب حديث وجذاب.



