قامات العلم بدأت بالرحيل

بقلم الإعلامي:صالح المحجم

لم يكن رحيل المعلمين والمعلمات إلى التقاعد حدثًا إداريًا عابرًا بل هو مشهد إنساني ومعرفي عميق يمرّ أمام أعيننا بهدوء
بينما تغادر قامات صنعت الوعي وأسهمت في بناء أجيال وكتبت تاريخ التعليم سطرًا سطرًا داخل الفصول الدراسية.
إن الأعداد المتزايدة من المتقاعدين في قطاع التعليم ليست مجرد أرقام في سجلات الموارد البشرية بل هي أعمار قضيت بين السبورة والدفتر ، وأصوات أرهقها الشرح، وقلوب حملت همّ الطالب قبل المقرر والوطن قبل الوظيفة.
معلمون ومعلمات دخلوا الميدان في ظروف شحيحة الإمكانات ، فكانوا هم الإمكانات وصنعوا من القلة وفرة، ومن الصعوبة دافعًا للعطاء.
جيلٌ كامل يودّع المدارس اليوم بعد أن عاش تحولات التعليم من الطباشير إلى التقنية ، ومن الفصول التقليدية إلى المنصات الرقمية ، فكان حاضرًا في كل المراحل متكيّفًا مع التغيير ، ثابتًا على الرسالة.
رحلوا وهم يحملون في ذاكرتهم أسماء آلاف الطلاب ، وفي قلوبهم دعوات صادقة ، وفي أرواحهم رضا لا يُشترى.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل نودّعهم كما يليق بهم؟ وهل استثمرنا خبراتهم قبل رحيلهم؟.
فالتقاعد لا يعني نهاية الدور بل انتقاله من الميدان إلى الحكمة ، ومن الممارسة اليومية إلى الإرشاد والتأثير غير المباشر.
وإذا كان كذلك فإن من أبسط حقوق هؤلاء القامات أن يُهيَّأ لهم ما يليق بتجربتهم بعد التقاعد.
فالرعاية الصحية الشاملة والتأمين الطبي اللائق والنوادي الرياضية وبطاقات الأولوية في الخدمات ليست امتيازات زائدة ، بل أقلّ الوفاء لمن أفنوا أعمارهم في خدمة الوطن.
كما أن إنهاء خدمة المعلّم لا ينبغي أن يُختزل في خطاب إداري جاف أو موقفٍ مفاجئ يُغادر فيه فصله دون وداع أو تقدير.
فأن يُبلَّغ معلم أو معلمة بانتهاء الخدمة أثناء الحصة ويُطلب منهما المغادرة وكأن سنوات العطاء تُطوى بلحظة ، هو مشهد موجع لا يليق برسالة التعليم ، وفيه قسوة وإذلال قبل أن يكون إجراءً نظاميًا.
إن نهاية خدمة المعلّم يجب أن تكون لحظة تكريم لا لحظة إقصاء واحتفاء لا إخطار ورسالة شكر من الوطن لا ورقة إنهاء.
إن خسارة التجربة التراكمية لهؤلاء دون توثيق أو استفادة خسارة لا تقل عن نقص المعلمين أنفسهم.
فتهيئة بيئة إنسانية راقية للمتقاعدين واستبقاؤهم مرجعًا وخبرة هو استثمار أخلاقي قبل أن يكون إداريًا، وميزان حضارة يُقاس به احترام الأمم لمعلميها.
قامات العلم بدأت بالرحيل… نعم
لكن الأجمل أن يبقى أثرهم وتُحفظ مكانتهم ويُعاد تعريف علاقتنا بهم بوصفهم خبرة وطنية لا تُهمَل.
فالأمم لا تُقاس بعدد مدارسها فقط بل بوفائها لمن وقفوا يومًا على أبوابها… معلمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى