نحن لا نُخدع… نحن نُصدّق ما يريحنا

✍️ م. محمد هاشم البدرشيني
متخصص في الأمن السيبراني
لسنا ضحايا كما نحب أن نُقنع أنفسنا ، وفي كثير من الحالات، لسنا مخدوعين بقدر ما نحن متواطئون مع الوهم؛ نختاره، ونُعيد نشره، وندافع عنه، فقط لأنه ينسجم مع ما نحب أن نسمعه.
في زمن التقنية المتسارعة، لم تعد الخديعة تحتاج إلى اختراق معقّد أو عبقرية إجرامية.
الخديعة الحديثة أبسط من ذلك بكثير: عنوان جذّاب، قصة ناقصة، مقطع مُتقن، أو رسالة تُلامس عاطفة جاهزة لدينا — الخوف، الطمع، الفضول، أو حتى الشعور بالانتماء.
المشكلة الحقيقية لم تعد في المحتال وحده، بل في بيئة تُكافئ الوهم ، بيئة تُكافئ السرعة على حساب التحقق، والانفعال على حساب العقل، والمشاركة على حساب المسؤولية.
نحن نعيش في زمن يُسأل فيه: من سبق بالنشر؟ ، ولا يُسأل: من تحقّق؟
كم خبر انتشر لأنه “منطقي” لا لأنه صحيح؟
كم إعلان صُدّق لأنه “يشبه” جهة رسمية؟
كم موقف بُني على صورة بلا سياق، أو مقطع مجتزأ، أو رسالة أُعيد توجيهها دون تفكير؟
نحن لا نفتقر إلى الأدوات، ولا إلى الوعي النظري، ولا حتى إلى التحذيرات.
ما نفتقده فعلًا هو الانضباط العقلي: القدرة على التوقّف، والشك، وطرح السؤال غير المريح: هل ما أراه حقيقة… أم مجرد ما أريد تصديقه؟
الخديعة الحديثة لا تُفرض بالقوة، بل تُقدَّم بلطف ، لا تسرق بياناتك فقط، بل تسرق قدرتك على الشك ، وهذا أخطر ما فيها.
في جوهره، الأمن السيبراني ليس برامج، ولا أنظمة، ولا جدران حماية.
هو سلوك إنساني قبل أي شيء آخر ، قرار واعٍ بأن لا أكون الحلقة الأضعف، حتى لو كان طريق التحقق أطول، وأقل إغراءً.
المجتمع الذي لا يتعلّم التحقق، يتحوّل — دون أن يشعر — إلى منصة تضخيم للأكاذيب ، والمجتمع الذي يخلط بين “المشاركة” و”المسؤولية”، سيدفع الثمن وعيًا، وثقة، وأمنًا.
لسنا بحاجة إلى مزيد من التحذيرات ، نحن بحاجة إلى شجاعة مواجهة أنفسنا بسؤال واحد صادق: هل نحن ضحايا الخداع… أم متطوّعون فيه؟



