بين الامتلاء والفراغ: رحلة النفس نحو المعنى

 

بقلم:نوره الدوسري

تبدأ رحلتنا في هذه الحياة بكأس، قد يكون ممتلئًا بما ورثناه أو اكتسبناه، أو فارغًا ينتظر أن يرتوي. لكن الحقيقة التي سرعان ما ندركها هي أن “الكأس المليان لا يتسع مكان الفراغ”. هذه الحكمة البسيطة تحمل في طياتها عمقًا يتعلق بقدرتنا على استقبال الجديد. فالعقل المشغول بالأفكار الراسخة، والقلب المثقل بالتجارب الماضية، قد يجد صعوبة في استيعاب رؤى مختلفة أو مشاعر جديدة. إنها دعوة ضمنية للتخلي عن بعض ما نحمله، لإفساح المجال لما هو قادم.

وعلى النقيض، فإن “الكأس الفارغ أحتاج أن يروي عقلي قبل فمي”. هنا تتجلى أهمية الغذاء الروحي والعقلي. قبل أن نسعى لإشباع حاجاتنا المادية، هناك نهم للمعرفة والفهم. العقل الجائع يتوق إلى الاستكشاف والتساؤل، وإلى امتلاء بالوعي الذي يسبق أي ارتواء جسدي. إنها إشارة إلى أن النمو الحقيقي يبدأ من الداخل، من تغذية الفكر وتوسيع الآفاق.

وفي خضم هذه الرحلة، نلتقي بأحبائنا، وتتداخل أرواحنا. قد تطول لحظات الانتظار، وقد يعتري اللقاء عتاب. لكن في جوهر الأمر، “انتظار الأحباب وعتابهم حب وود”. فالشوق للقاء دليل على مكانتهم في قلوبنا، والعتاب ليس إلا تعبيرًا عن الاهتمام والرغبة في استمرار العلاقة وتقويتها. إنه شكل من أشكال التواصل العميق الذي يتجاوز الكلمات السطحية.

وقد نغيب يومًا عن حياة من نحب، لنكتشف حينها قيمة حضورنا. فـ “غيابي يعني موتهم وحضوري يعني حياتهم” هي حقيقة مؤلمة لكنها قوية. إنها تذكرنا بالتأثير الذي نتركه في حياة الآخرين، وكيف يمكن لوجودنا أن يكون مصدرًا للدعم والفرح. هذه الكلمات تحمل مسؤولية عظيمة، وتدعونا لتقدير اللحظات التي نكون فيها حاضرين ومؤثرين.

وفي نهاية المطاف، فإن مفتاح النجاح والرضا يكمن في داخلنا. “اصنع لنفسك الثقة، كن واثق الخطى تكن ملكًا، فواثق الخطى يمشي ملكًا”. الثقة بالنفس ليست مجرد شعور، بل هي قناعة راسخة بالقدرات والإمكانيات. عندما نؤمن بأنفسنا، فإن خطواتنا تصبح أكثر ثباتًا، وقراراتنا أكثر حسمًا. هذه الثقة تشع منا لتؤثر في نظرة الآخرين إلينا، وتفتح لنا أبوابًا لم تكن لتفتح لولا هذا الإيمان الذاتي.

إنها دعوة للتوازن بين الامتلاء والفراغ، بين إشباع الجسد وتغذية العقل، وبين قيمة الحضور وأثر الغياب، والأهم من كل ذلك، بناء الثقة التي تجعلنا نسير في هذه الحياة بخطى ملك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى