قراءة في “رُبَّ جوهرةٍ في مزبلة” للأمام عبدالله بن المبارك.

عبدالعزيز عطيه العنزي
هذه القصة القصيرة المأخوذة من كتاب “العِقد الفريد” للإمام ابن عبد ربه هي موقفٌ عابرٌ ولكنه يحمل في طياته حكمةً
عميقةً وتعبيرًا بلاغيًا بديعًا.
تتحدث القصة عن الإمام عبد الله بن المُبارك، وهو علمٌ من أعلام الإسلام، وزاهدٌ ورعٌ، وعالمٌ جليل. بينما كان يمشي، سمع رجلًا سكرانًا يقول بيتين من الشعر:
– أذلّنيَ الهوى فأنا الذليلُ..
– وليس إلى الذي أهوَى سبيلُ.
هذان البيتان يعبران عن حالٍ من الضعف والهوان أمام الهوى، وعن العجز عن الوصول إلى المراد. هي شكوى ذاتية من ألم العشق أو الشوق غير المتحقق.
ما فعله الإمام بن المبارك هنا هو الأهم؛ فقد أخرج ورقةً وكتب البيت، مما أثار استغراب من كان معه، وسألوه: “أتكتب بيتَ شعرٍ سمعته من سكران؟”
وهنا يأتي الجواب الحكيم الذي أصبح مقولةً سائرةً: “رُبَّ جوهرةٍ في مزبلة!”
دلالات القصة والقول:
* الحكمة لا تقتصر على مصدر معين: جوهر القصة يكمن في أن الحكمة والجمال قد يوجدان في أي مكان، ومن أي شخص، بغض النظر عن حالته أو هيئته الظاهرية. فالإمام بن المبارك لم يحكم على القول من خلال قائله (سكران)، بل نظر إلى القول ذاته.
* تمييز الجوهر عن المظهر: “الجوهرة” هنا هي الكلمة البليغة، المعنى العميق، أو الحكمة الكامنة، أما “المزبلة” فهي الحال الظاهرة للسكران أو المكان الذي قيلت فيه. فالإمام استطاع أن يفصل بين القائل والقول، ويرى القيمة الحقيقية في الكلمة.
* شمولية التجربة الإنسانية: الأبيات التي قالها السكران، على بساطتها، تعبر عن تجربة إنسانية عميقة يشعر بها الكثيرون: تجربة الشوق، العجز، والذل أمام المشاعر القوية. هذا المعنى العام هو ما جعل الإمام يستوقفه ويسجله.
* التواضع والبحث عن الحقيقة: موقف الإمام بن المبارك يعكس تواضع العلماء وحرصهم على جمع المعرفة والحكمة من أي مصدر، دون تكبر أو استعلاء. فالعالم الحق هو من يبحث عن الحقيقة أينما وجدت.
باختصار، هذه القصة درسٌ بليغٌ في فتح الذهن والقلب لكل ما هو جميل وحكيم، وعدم الحُكم المسبق على الأشياء أو الأقوال بناءً على مصادرها أو ظروفها الخارجية. إنها دعوة للتأمل والبحث عن “الجواهر” المخفية في “المزابل” الظاهرة.