الهوية الذهنية وهيمنة المجتمعات

 

الكاتبة :أروى الزهراني

ماجستير في الإعلام

لا تثريب على المرء أن ينخرط في كافة الأنساق المجتمعية المنطقية وغير المنطقية من أجل الأمان السائد والبُعد عن التمايزات التي لم تزل معضلة أمام الفِكر الجمعي،

يكبر الإنسان وينشأ في ظِل جماعته، ثم مُحاذيًا لمجموعة ما’ باختياره، ثم مكافئًا لكثرة بالإجماع إما باختياره أو قسرًا بالانطباع…

على هذا النحو ثمة معضلة تُسقِط ما هو فريد، وتصبو إلى العموميات المطلقة، بَيدَ أن نزعة الاختلاف تعلو وتسمو في المواقف بتلقائية لا يمكن منعها أو اختزالها.

إن الهوية التي تميز كلٌ منا هي بصماتنا في اليوميات والسلوكيات والانفعالات والأثر،

الهوية الذهنية على سبيل التخصيص محط تفاعل الذات مع العالم وطريقتها في التعاطي مع حيثياته،

فكل هوية تضيف للعالم وتثريه،

لكننا في تشكّل هذه الهوية مُلزمين أن نتوازى مع انعكاسها في أذهان الآخرين، ففي إطار الجماعة لا يمكننا فصل هوياتنا التي نعرفها عن أنفسنا عن تلك المأخوذة عنا في اعتبارات البقية!

هنا المعضلة، التي تتجسد في خطورة التصنيف الذي يتعلق بهويتنا في انطباع الآخرين، وكيف نصل للتكافؤ الذي لا يطعن في حقيقتنا وينسجم مع صورتنا لدى الآخرين في ذات الوقت!

وهذا يقودنا إلى تلمّس الهدر للكثير من الهويات في ظل تسيّد الأحكام الجمعية المطلقة عن هوياتنا بلا اختبارها اختبارات حقيقية، ووضعها في ميزان المواقف الجدية الموضوعية،

يحدث هذا الإجحاف حين يتم إسقاط ما نعنيه بحق، وتفضيل ما تشكّل عنا كانطباع أول، ثم يبدأ بالهيمنة شيئا فشيئا دون أن نتدخل في إصلاح ملامح الصورة، لأن الإصلاح محض عبث أم سيل فكر الجماعة الجارف!

وعلى مدى الزمن كانت هيمنة المجتمعات في تشكيل الصور الذهنية رادعًا لأي تقدم ولأي فرادة،

لا سيما في ظل تراجع الأفراد عن النضال من أجل ذلك،

والاستسلام لفورة الجماعة،

أما عما يحدث في حاضرنا اليوم، يعد محطّ تقدير

لأنه ثمة نزاع ناجع حول هوياتنا في أذهان الآخرين، وهوياتنا كما هي، وثمة إنصاف مثلما هناك تشوّش، وهذا التباين صحيّ مقارنة بجمود الحالة!

فمن المعزي أن الكثرة منا الآن تتحكم في هويتها الذهنية وتعيد تدويرها بناءً على اعتبارات عديدة تسمح بالشطب والإضافة، تضمن التعديل وترسيخ الحقيقة، وتنقيح الخطأ،

لقد بتنا أكثر مرونة في تشكيل الأمور، حتى في ترميم الأعراف المطلقة، وتشذيبها، وأضحت العقول أكثر إنصافًا بخصوص استيعابها للآخرين، من خلال تفريغ الهوية من شرط الجمود، وتذويبها في أُطر كثيرة تسمح بالتشكل في تجسيد مرن، لا يفقد أصالته ولا يسمح بالطعن فيه،

أشياء كتلك تكفل للفرد أن يستريح في ظل جماعته، مهما بلغ اختلافه ومهما كانت هويته، وكيفما كان شكل الانطباع الذهني عنه كشخص ينتمي للجماعة.

ولا أدري حقيقةً من الذي يتغير، هوياتنا أم الزمن، أم أن النسيج الكُلي للمجتمع يتغير كلما تقدمنا في مسارات الحياة يجعلنا نتمرّس التكيف ونلين للمجهول،

اليوم، وعلى إثر التغيير نحرص على التفرد، كما نحرص على الانسجام، وهي غريزة في نشوء الإنسان، لكننا نمتنع عن وأد الهوية الحقيقية بصورة تشكلت في أذهاننا الجمعية،

نحارب جمود الصورة، ونغدو أكثر استيعابًا لمرونة التغيير في كل شيء، بدءًا بالفِكر والسلوك والمخرجات والعادات وصولًا لتشكيل الفرد بأكمله،

لقد دار بيننا وبين الآخرين نزاعات عديدة بسبب تأويل هوياتنا في أذهانهم وتعميم الصورة، لكننا ومع الوقت شهدنا كيف أصبحت تلك الظاهرة محض حالات فردية، تمر بشكل عرضي بلا عواقب كما كان الحال فيما سبق،

اليوم نحن أكثر نضوجًا، أقوى تجاه التغيير وأكثر مرونة وإقبال ورغبة، ليس لدينا عنادًا مغلوطًا تجاه التحديث،

وكياناتنا متأهبة دائمًا للتعرف على المجهول دون ردعه،

وعلى التصالح مع المختلف دون وأدِه،

لقد اضطر الكثرة منا للازدواج في هويته درءًا للحِراك المجتمعي بخصوصه، وخوفًا من الاختلاف، والأغلب تشكلت هويته ذهنيًا من قبل الآخرين قبل أن تتجسد كليًا في سيرته، وظل الفرد أسيرًا للمشهد الذهني حوله في نسق المجتمع، لكننا وصلنا للوقت الذي لا يضطر فيه أحد للدفاع عن هويته لدرجة الثورة، وإحلال نقيضها بالقوة، بل بالمرونة،

وهو تحوّل نوعي نسترخي حين نتأمله، وحين يمررنا في أذهان الآخرين كمشهد حيوي، قابل للتعديل.

علينا أن ندرك الآن أن ” الهوية الذهنية اكتسابًا: على المرء أن يسعى لتطويره كلما لزم الأمر”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com