الطلاق… حين يغيب التعقّل وتُهدم البيوت

بقلم قماش العويدان
الطلاق ظاهرة باتت تتسارع وتيرتها، وتتجاوز في كثير من الأحيان حدود العقل والحكمة، فتفتح أبوابًا من الألم والتشتّت لا تقتصر آثارها على الزوجين فحسب، بل تمتد لتطال الأبناء، والعائلة، والمجتمع بأسره.
والطلاق في أصله حلّ شرعه الله سبحانه وتعالى حين تستحيل العِشرة، وتغيب المودة، وتنعدم سبل الإصلاح، قال تعالى:
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا﴾ [النساء: 35].
فهو آخر الدواء، لا أوّله.
إلا أن المؤلم أن كثيرًا من حالات الطلاق المعاصرة لا تستند إلى أسباب شرعية معتبرة أو ضرورات حقيقية، بل تأتي نتيجة تسرّع، أو ضغط نفسي، أو خلافات سطحية قابلة للحل بالتفهّم والتسامح.
للزوجة الحق في طلب الطلاق إذا مسّ الزوج دينها أو كرامتها، كأن يكون فاسقًا يشرب الخمر، أو يمارس العنف الجسدي أو اللفظي، فذلك يُعدّ مسوّغًا شرعيًا لطلب الانفصال، حفاظًا على النفس والدين.
أما إذا كان الخلاف بسبب تقصير مادي، أو منع الزوج لزوجته من الخروج لأماكن لا ضرورة فيها، أو لاختلاف في الطباع والرغبات، فإن التسرّع في طلب الطلاق حينها قد يكون هدمًا غير مبرّر لأسرة يمكن إنقاذها بالصبر والحوار.
بناء الأسرة مسؤولية عظيمة، وهدمها قرار خطير. وليس من العقل أن تُضحّى عشرةُ السنين، وأمنُ الأطفال، واستقرارُ البيوت، بسبب نزوة أو خلافٍ عابر.
فالحياة الزوجية لا تخلو من المنغصات، لكن من يُحسن إدارة الخلافات، يزرع في بيته السكينة ويُثمر فيه المودّة.
وقد وجّه النبي ﷺ إلى هذا المعنى بقوله:
«لا يفرك مؤمنٌ مؤمنةً، إن كره منها خلقًا، رضي منها آخر» [رواه مسلم]
وهذا منهج تربوي نبيل يدعو إلى التوازن والإنصاف، لا إلى التهويل والتجريح.
نحن أحوج ما نكون إلى التروّي، وإلى الاستشارات الأسرية الناضجة، وإلى تدخل العقلاء قبل اتخاذ قرار يصعب التراجع عنه.
فالطلاق، حين يكون في غير موضعه، يتحوّل من حلّ مشروع إلى كارثة إنسانية واجتماعية. فلنحتكم إلى العقل، ولنتذكّر دائمًا أن ترميم البيوت أيسر من إعادة بنائها.
سبل الوقاية من الطلاق والحدّ من تفكك الأسر
للحد من ظاهرة الطلاق المتصاعدة، لا بد من معالجة جذورها والاهتمام بجوانبها الوقائية والعلاجية، ومن أبرز الحلول العملية:
1. التأهيل قبل الزواج:
فرض برامج تأهيلية ملزمة للمقبلين على الزواج، تُعنى بتعليمهم مهارات التواصل، وفهم الفروق النفسية، وإدارة الخلافات الزوجية، والحقوق والواجبات، مما يرفع من وعيهم واستعدادهم للحياة المشتركة.
2. الوعي الديني والأسري:
ترسيخ المفاهيم الشرعية السليمة حول الزواج والطلاق، وتصحيح المفاهيم المغلوطة المنتشرة عبر وسائل الإعلام أو شبكات التواصل، لتصبح العلاقة الزوجية مبنية على الميثاق الغليظ لا على النزوات.
3. الإصلاح الأسري قبل القضاء:
تفعيل مكاتب الصلح الأسري داخل المحاكم، وجعل اللجوء إليها إلزاميًا قبل إصدار حكم الطلاق، لتقريب وجهات النظر، ومحاولة رأب الصدع قبل اتخاذ القرار الأخير.
4. المتابعة النفسية والاجتماعية:
توفير خدمات الدعم النفسي والأسري في الجمعيات والمؤسسات المجتمعية، لمساعدة الأزواج في تجاوز الأزمات والضغوط، دون اللجوء مباشرة للانفصال.
5. تعزيز ثقافة الحوار والتغافل:
تعليم الأزواج أن الخلاف لا يعني الفشل، وأن التغافل عن الزلات من أنبل الخصال، فليس من بيت يخلو من المشكلات، وإنما التحدي الحقيقي هو في إدارتها لا في الهروب منها.
6. وسائل إعلام مسؤولة:
تشجيع الإعلام على إنتاج محتوى إيجابي يُعزّز قيمة الأسرة، ويُقدّم نماذج واقعية لحلول الخلافات، بدلًا من تصدير ثقافة الانفصال كخيار أول وسهل.
7. تمكين المرأة والرجل اقتصاديًا واجتماعيًا:
دعم الطرفين بالاستقلالية المتزنة والتمكين المناسب، يقلل من الضغوط الاقتصادية ويمنح كل طرف قدرة أكبر على الصبر والتعاون والاحترام المتبادل.
8. دور الأسرة الممتدّة:
إعادة إحياء دور الأسرة الكبيرة – من آباء وأمهات وحكماء – كبيئة دعم وتوجيه وتدخل إيجابي لحماية العلاقات الزوجية من التدهور والانهيار.
إذا رافقت هذه الحلول إرادة مجتمعية حقيقية، ومتابعة مؤسسية، ورعاية تنظيمية من الجهات ذات العلاقة، فإننا سنشهد تراجعًا ملموسًا في نسب الطلاق، ونهوضًا بأسرة أكثر وعيًا، واستقرارًا، وعطاءً في بناء وطن متماسك القيم.