ضيعوا الموجود بحثاً عن المفقود

عبد العزيز عطية العنزي

في عالم يتسارع فيه الزمن، وتتدفق فيه الفرص كالأنهار الجارفة، يجد الإنسان نفسه غالباً أمام معضلة قديمة كالزمن نفسه: البحث عن ما هو مفقود، على حساب ما هو موجود. هذا العنوان ليس مجرد عبارة شعرية، بل هو درس حياة يتكرر في كل عصر، وفي كل مجتمع. فكم من أفراد، وشعوب، ودول، ضيعت ما بين يديها من كنوز، سعياً وراء سراب المفقود؟ في هذا المقال، سنستعرض هذه الظاهرة من جوانب متعددة، مستندين إلى أمثلة تاريخية ومعاصرة، لنكشف كيف أن الطمع، أو الغفلة، أو الرغبة في الكمال، قد تؤدي إلى خسارة كل شيء.
# الجذور النفسية للظاهرة
يبدأ الأمر من داخل الإنسان نفسه. الفلاسفة القدماء، مثل أرسطو، تحدثوا عن “الاعتدال” كفضيلة أساسية، محذرين من الإفراط في البحث عن المثالي. في عصرنا الحديث، يُعرف علم النفس هذه الظاهرة بـ”متلازمة الفوت” (Fear of Missing Out)، حيث يشعر الفرد بأن هناك دائماً شيئاً أفضل مفقوداً، فيضيع وقته وجهده في مطاردته، متجاهلاً ما يملكه بالفعل. تخيل شاباً يترك وظيفة مستقرة بحثاً عن “حلم” مهني بعيد المنال، فيجد نفسه بعد سنوات بلا وظيفة ولا حلم. هذا ليس خيالاً، بل واقع يعيشه الملايين في عالم اليوم، حيث أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تروج لصور مثالية، تجعل الجميع يشعرون بأنهم يفتقدون شيئاً.

في دراسة أجرتها جامعة هارفارد حول السعادة، تبين أن الأشخاص الذين يركزون على تقدير ما لديهم يتمتعون بمستويات أعلى من الرضا، بينما أولئك الذين يبحثون دائماً عن “الأفضل” يعانون من القلق المزمن. إذن، الخسارة ليست مادية فقط، بل نفسية أيضاً. ضيعوا الموجود، لأنهم لم يروا قيمته، بحثاً عن مفقود وهمي.

# أمثلة تاريخية: دروس من الماضي
التاريخ مليء بقصص تثبت هذه الحقيقة. خذ على سبيل المثال الإمبراطورية الرومانية، التي امتدت حدودها إلى أقاصي الأرض، لكنها ضيعت استقرارها الداخلي بحثاً عن توسعات إضافية. الإمبراطور تراجان، على الرغم من انتصاراته، أدى طموحه إلى إرهاق الجيش والاقتصاد، مما مهد الطريق لانهيار الإمبراطورية لاحقاً. كان لديهم إمبراطورية قوية، لكنهم سعوا وراء المزيد، ففقدوا كل شيء.

أقرب إلينا، في العالم العربي، نجد قصة الدولة العثمانية. كانت تمتلك أراضي شاسعة وثروات هائلة، لكنها أهملت تطويرها الداخلي بحثاً عن حروب خارجية وتوسعات. نتيجة لذلك، تفككت الإمبراطورية، وضاعت الوحدة العربية التي كانت موجودة، سعياً وراء أحلام إمبراطورية مفقودة. وفي عصرنا، نرى دولاً عربية غنية بالنفط تضيع ثرواتها في مشاريع فاخرة غير مستدامة، بينما يعاني شعوبها من نقص في التعليم والصحة – الموجود الحقيقي الذي يجب الحفاظ عليه.

# الجانب الاقتصادي: الطمع يأكل نفسه
في عالم الاقتصاد، تتجلى هذه الظاهرة بشكل أكثر وضوحاً. شركات عملاقة مثل “نوكيا”، التي كانت تسيطر على سوق الهواتف المحمولة، ضيعت مكانتها بحثاً عن ابتكارات مفقودة، متجاهلة التطورات السريعة في التكنولوجيا. رفضت نوكيا التحول إلى الهواتف الذكية في البداية، ظانة أن ما لديها كافٍ، لكنها في النهاية فقدت كل شيء لصالح آبل وسامسونج.

على المستوى الشخصي، كم من مستثمرين خسروا مدخراتهم في مطاردة “الفرصة الذهبية”، مثل فقاعة العملات الرقمية أو الأسهم المضاربة؟ يقول الاقتصادي وارن بافيت: “الاستثمار الناجح هو الحفاظ على ما تملكه، لا البحث عن المزيد”. إن التركيز على تنمية الموجود – سواء كان رأس مال أو مهارات – هو الطريق إلى النجاح، لا السعي وراء المفقود الذي قد يكون وهماً.

الحلول: كيف نعيد التوازن؟
ليس كل شيء قاتماً. يمكننا تجنب هذه الفخاخ باتباع خطوات بسيطة لكنها فعالة. أولاً، الوعي: يجب أن نتوقف ونسأل أنفسنا: هل ما نبحث عنه يستحق خسارة ما لدينا؟ ثانياً، التقدير: ممارسة الشكر اليومي لما هو موجود، كما ينصح علماء النفس. ثالثاً، التخطيط الاستراتيجي: في السياسة والاقتصاد، يجب على القادة التركيز على تعزيز الداخل قبل النظر إلى الخارج.

في الختام، “ضيعوا الموجود بحثاً عن المفقود” ليس مجرد تحذير، بل دعوة للتأمل. في زمن السرعة والتغيير، دعونا نحافظ على ما بين أيدينا، فالكنز الحقيقي غالباً ما يكون أمام أعيننا، لا في أفق بعيد. إذا تعلمنا هذا الدرس، سنبني مستقبلاً أقوى، بدلاً من أن نندم على ما فات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com