أعضاء «الترزّز»: وجاهةٌ تُعطِّل، ومقاعد تُهدَر

بقلم
د. تركي العيار
أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود
في غير قليلٍ من مجالس إدارات القطاعات غير الربحية والقطاعين العام والخاص، يطفو على السطح نمطٌ مقلق من العضوية يمكن تسميته بـ«أعضاء الترزّز»: أشخاص يطلبون المقعد لا لكي يعملوا، بل ليتزيّنوا به اجتماعيًا، ثم لا يلبث أن يتكشف عجزهم عن الحضور والمشاركة واتخاذ المواقف ساعة الشدة.
خطورة هؤلاء لا تقف عند حدود الصورة؛ إنهم يشوِّهون الحوكمة، ويضرّون بالأداء، ويستولون على فرصٍ كان الأولى أن تذهب لمن يريد أن يخدم بجدٍّ وتفانٍ. الأدبيات العالمية في الحوكمة تؤكد أن المجلس ليس منصبًا فخريًا، بل جهاز توجيهٍ ومساءلةٍ وإدارة مخاطر. مبادئ منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) المحدثة عام 2023 تُحمِّل المجلس مسؤولية التوجيه الاستراتيجي، والرقابة على الضبط الداخلي، وربط الحوافز والمكافآت بالأداء وإدارة المخاطر؛ أي إن «الوجاهة» بلا عمل تناقض فلسفة المجلس من جذورها.
ثمّة شواهد كمية تُظهر كيف يضرّ «الحضور الشكلي» بالأداء. دراسات محكّمة بيّنت أن انخفاض حضور الأعضاء للاجتماعات يرتبط بتراجع ربحية الشركات وضعف رقابة الإدارة؛ بل إن تفويض الحضور (الإنابة) أو الحضور «بالاسم» له أثرٌ سلبي قابل للقياس مقارنةً بحضور العضو نفسه ومشاركته الفعلية. كما أن «الانشغال المفرط» Overboarding – أي جمع العضو لعدة عضويات – ينعكس عادةً على ضعف الحضور وتراجع الفاعلية.
هذه نتائج سُجّلت في مجلاتٍ علمية رصينة منذ سنوات، وما تزال تتكرر في الأدبيات الحديثة. وفي القطاع غير الربحي تحديدًا، تكشف مسوحات «Leading with Intent» لِـBoardSource أن فجوة الاتصال بين بعض المجالس والمجتمعات التي تخدمها كبيرة: نحو نصف الرؤساء التنفيذيين (49%) قالوا إن مجالسهم لا تضم الأشخاص المناسبين لبناء الثقة مع المجتمع، وأن ترتيب الأولويات داخل المجلس كثيرًا ما يذهب إلى أنشطة جانبية على حساب التأثير الاستراتيجي. هذه أرقام تُبرز كلفة «العضوية للوجاهة» على الشرعية المجتمعية والنتائج.
محليًا، لا تترك الأنظمة السعودية الباب مفتوحًا لعبث المقعد. «نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية» منح الوزير صلاحية عزل مجلس إدارةٍ منتخب وتعيين مجلسٍ مؤقت إذا أخلّ بواجباته أو فقد نصابه ولم يصحح المخالفة خلال مهلة محددة. كما حظرت اللائحة التنفيذية إنابة أعضاء مجلس الإدارة لحضور الجمعيات العمومية نيابةً عن غيرهم، وأصدرت الوزارة «قواعد حوكمة الجمعيات الأهلية» ودلائل تفصيلية للالتزام والشفافية والسلامة المالية. هذه الأدوات النظامية ليست ديكورًا؛ إنها رسالة واضحة بأن مجلس الإدارة وظيفة ومسؤولية وليست منصة «ترزّز».
لماذا ينسحب «عضو الواجهة الهشّة» عند أول منعطف؟ لأن التكليف ثقيل حين يصبح واقعيًا: قراءة الوثائق، حضور اللجان، مساءلة التنفيذيين، اتخاذ قرارات صعبة في الأزمات، وتحمّل تبعاتها. العضو الذي دخل لأجل الصورة يهرب عند أول اختبار لأن «الصور» لا تتحمل المسؤولية، والسمعة عند هؤلاء تُبنى على الظهور لا على الإنجاز.
الحل ليس بالتشهير، بل بإصلاح منظومة الاختيار والمساءلة:
1. تعريفٌ مُعلن لوظيفة العضو ومؤشرات أدائه: وصفٌ دقيق لدور العضو (استراتيجية، رقابة، مخاطر، موارد بشرية، التزام) مع مؤشرات قياسٍ سنوية (حضور ≥ 80%، مساهمة نوعية موثّقة، عمل في لجنة واحدة على الأقل، ساعات تطوير مهني). هذا ينسجم مع مبادئ OECD التي تشدد على وضوح الأدوار والضبط الداخلي.
2. مصفوفة مهارات و«سدّ الفجوات» قبل الانتخابات: تُنشر مصفوفة علنية لمهارات المجلس (مالية، قانونية، رقمية، تنموية، حوكمة، تمويل) وتُدار الترشيحات لسدّ العجز لا لملء المقاعد. نتائج BoardSource تُظهر أن ضعف مواءمة التكوين مع احتياجات المجتمع يُقوِّض التأثير؛ والمصفوفة تعالج ذلك جذريًا.
3. سياسة «تضارب المصالح» و«تحديد الانشغال»: سقفٌ لعدد العضويات المتزامنة وحدٌّ لعدد الرئاسات، مع إفصاحٍ دوري عن المصالح؛ فالأبحاث حول «busy boards» ربطت الانشغال بضعف الحضور والفاعلية.
4. نظام حضورٍ ومساءلةٍ صارم: نشر سجل الحضور والالتزام في التقرير السنوي، والتنبيه ثم الإعفاء عند تجاوز حدٍّ أدنى، وملء الشواغر سريعًا لعدم كسر النصاب؛ وهذا ما يدعمه النظام السعودي ويمنح الجهة المشرفة أدواتٍ للتصحيح.
5. تقييم سنوي للمجلس والفرد (360 درجة): يشارك فيه الزملاء والرئيس التنفيذي ومدققو الحوكمة، ويرتبط بالترشيح للدورة التالية. الأدبيات تُشير إلى أن وضوح توقعات الرئيس/الرئيسة وتحسين ثقافة المجلس يرفع أداءه.
6. تأهيلٌ إلزامي قبل وبَعد الانضمام: ساعاتٌ معتمدة في الحوكمة والقراءة المالية وإدارة المخاطر والبيانات غير المالية (ESG)، توازيها أدلة الوزارة في «قواعد الحوكمة» المحلية.
7. آلية طوارئ تمنع «الهروب عند الأزمة»: لائحة إجراءاتٍ تُفعَّل في الظروف الحرجة (لجنة أزمات، اجتماعات مُكثفة، خطوط قرار مختصرة، ميثاق التزام يمنع الاستقالات غير المبررة أثناء الطوارئ إلا لأعذار قاهرة)، مع مساءلة لاحقة لمن يُخلّ.
التغيير الثقافي لا يقل أهميةً عن الإجراءات. يجب أن تنتقل عضوية المجلس في وعينا من «وسامٍ» إلى «عقد تكليف». العضو الجاد ليس الأعلى صخبًا على المنصات، بل الأعمق أثرًا في محاضر الاجتماعات ولجان التدقيق وخطط الاستدامة. والتقدير الاجتماعي الحقيقي يجب أن يُمنح لمن يحضر ويقرأ ويجادل ويُقنع ويتحمّل، لا لمن يلتقط الصور ثم يتوارى حين تعصف المشكلات.
إن حماية مقاعد المجالس من «أعضاء الترزّز» ليست حربًا على الأشخاص، بل دفاعًا عن المصلحة العامة وكرامة العمل المؤسسي. حين نُحسن الاختيار ونشدّد المساءلة ونُعلن النتائج، سنرى—سريعًا—مجالسَ أكثر صلابة، وقراراتٍ أجرأ، ومنظماتٍ تُنجز بدل أن «تترزّز». وفي النهاية، من أراد الوجاهة فميادين الخدمة مفتوحة، لكن مقعد المجلس ليس مرآةً للذات؛ إنه مرآةٌ للمسؤولية