بين الواقع والخيال والحقيقة: بحثٌ في مرآة الوجود

بقلم:اميره المعجل-حفر الباطن
منذ أن بدأ الإنسان يتأمل العالم من حوله، وهو ممزّق بين ثلاث قوى كبرى: الواقع الذي يفرض نفسه عليه، الخيال الذي يفتحه على الممكن، والحقيقة التي تلوح أمامه كغاية بعيدة المنال. هذه الثلاثية ليست مجرد مفاهيم، بل هي ملامح لتجربة الوجود الإنساني نفسها، تترابط في صراع وتكامل، كما يترابط الضوء بالظل، واليقين بالشك.
الواقع: سلطان الحواس وقيودها
الواقع هو المسرح الذي تدور عليه أحداث حياتنا. كل ما هو حاضر أمام أعيننا، كل ما يلمس أجسادنا ويحيط بنا من أشياء وظواهر. لكنه في الفلسفة ليس بهذه البساطة؛ فالحواس التي تنقل لنا الواقع محدودة، وقد تكون خادعة.
هل الواقع هو ما نراه حقًا، أم أن ما نراه مجرد انعكاس باهت لحقيقة أعمق؟ أفلاطون شبّهه بظلال على جدار كهف، بينما ديكارت شكك في كل إدراك حسي حتى وجد يقينه في التفكير ذاته. الواقع إذن ليس صخرة صلبة دائمًا، بل أفق يتبدل تبعًا لزاوية النظر.
الخيال: انفتاح الممكن
إذا كان الواقع يحدّنا بما هو “قائم”، فإن الخيال يمنحنا الحرية لنحيا بما هو “ممكن”. بالخيال نكسر جدران اللحظة، ونُعيد صياغة العالم بما لم يكن بعد. إنه قوة الخلق والإبداع، حيث يولد الشعر، والفن، والعلم.
الخيال ليس وهمًا بالضرورة، بل أحيانًا هو مقدمة للحقيقة المستقبلية. كل اختراع عظيم بدأ بخيال، وكل نظرية كبرى كانت حلمًا في ذهن فيلسوف أو عالم. لكن الخيال حين ينفصل عن الواقع تمامًا قد يصبح خداعًا، سجنًا آخر نلوذ به من مواجهة العالم.
الحقيقة: سرّ الوجود
الحقيقة هي ما يتجاوز الظواهر إلى الجوهر. إنها ليست مجرد تطابق بين ما في الذهن وما في الخارج، بل بحث عن معنى في قلب الوجود. قد تكون مطلقة، كما حلم بها الفلاسفة القدماء، أو نسبية كما يراها الحداثيون. لكنها تظل دائمًا مطمحًا يوجه خطى الإنسان.
الحقيقة لا تُعطى بسهولة؛ إنها تُقتنص عبر شك وتساؤل ومعاناة. قد يلمسها الشاعر في بيت من شعر، وقد يلمحها العالم في معادلة، أو الفيلسوف في فكرة.
التفاعل: جدلية الحياة
الواقع يغذّي الخيال بالمواد الخام، والخيال يعيد تشكيل الواقع في صور جديدة، والحقيقة تقف كمعيار يختبر صدق التجربة.
الفن هو مثال صارخ لهذا التداخل: فهو ابن الخيال، لكنه يستمد مادته من الواقع، ويسعى دومًا إلى القبض على حقيقة إنسانية أعمق. كذلك العلم، يبدأ بخيال الفرضية، لكنه لا يكتمل إلا حين يثبت صدقه في مواجهة الواقع.
خاتمة: الإنسان كجسر بين الثلاثة
الإنسان يعيش دائمًا على هذا الحدّ الفاصل:
هو كائن واقعي محكوم بالزمن والمكان.
وهو كائن خيالي قادر على تجاوز قيوده
وهو كائن حقيقي يسعى لأن يجد في الوجود معنى يبرر آلامه وأحلامه.
إن إدراك هذه الجدلية هو ما يجعلنا بشرًا بحق. ففي لحظةٍ ما، قد يكون الواقع مريرًا، لكن الخيال يمدّنا بأجنحة، والحقيقة تظل نورًا نهتدي به وسط العتمة.