الفقر. حين تصرخ الكرامة في وجه اللامبالاة

سارة طالب السهيل
في عام 1987، وقف الكاهن الفرنسي (جوزيف وريسنسكي ) في ساحة (تروكاديرو) بباريس – تلك التي شهدت إعلان حقوق الإنسان – ليضع حجرًا يخلّد ذكرى ضحايا الفقر والتهميش. لم يكن الحجر مجرد نصب تذكاري، بل صرخة من صخرٍ في وجه اللامبالاة. تجمّع حينها عشرات الآلاف من الفقراء والمتطوعين والحقوقيين ليعلنوا أن “الفقر انتهاك لحقوق الإنسان”، وأن الكرامة الإنسانية لا تُشترى ولا تُستعطف.
بعد خمس سنوات، اعتمدت الأمم المتحدة هذا اليوم رسميًا، ليصبح في السابع عشر من أكتوبر كل عام منبرًا عالميًا للمطالبة بعدالة اقتصادية واجتماعية حقيقية. حتى يصحو ضمير العالم على حقيقة قديمة متجددة: أن الفقر ليس قدَرًا، بل نتاج منظوماتٍ عاجزة، وأولوياتٍ مختلّة، وصمتٍ طويل عن الألم. في هذا اليوم، لا نحتفل بذكرى عابرة، بل نُعيد فتح الجرح الإنساني الأكثر وجعًا: جرح الفقر، الذي يسرق من الإنسان معنى الحياة قبل أن يسلبه خبزه.
تقول الإحصاءات إن أكثر من 700 مليون إنسان حول العالم يعيشون اليوم تحت خط الفقر المدقع، لكن خلف هذا الرقم البارد، وجوه، وأحلام مكسورة، وأطفالٌ يدرسون على ضوء شمعةٍ منتهية. الفقر لا يُقاس فقط بفراغ الجيوب، بل بالعجز عن الحلم.
هو حين تبيت أُمٌّ على وعدٍ كاذب بأن الغد سيكون أفضل، وحين يختبئ طفلٌ خلف باب المدرسة؛ لأن حذاءه الممزّق يفضحه أمام زملائه. إنه الوجع الصامت الذي يسكن العيون قبل الجيوب، ويختبر ضمير البشرية في كل لحظة.
الفقر في العالم العربي… ما بين النجاح والانكسار
في منطقتنا العربية، يتفاوت المشهد كما تتفاوت الجغرافيا. المغرب استطاعت خلال العقدين الماضيين أن تخفض معدلات الفقر عبر “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” التي مزجت بين الدعم الاجتماعي والتنمية المحلية، فأنقذت آلاف القرى من العزلة، وربطت الفقر بسياسات التشغيل والتعليم لا بالإحسان فقط.
وفي مصر شكّل برنامج “تكافل وكرامة” خطوة مهمة في حماية الفئات الأضعف، إذ وصل إلى ملايين الأسر وربط المساعدات بتحسين التعليم والصحة، فكان دعمًا يزرع الكرامة لا التبعية.
أما تونس، فقد سارت على نهجٍ مشابه ببرنامج “أمان” الذي وسّع شبكة الحماية الاجتماعية، وأعاد الثقة بين المواطن والدولة.
لكن في المقابل، لا تزال اليمن وسوريا وغزة أمثلة دامية على أن الحرب هي المصنع الأكبر للفقر، إذ دمّرت البنية الاقتصادية، وشرّدت الأسر، وأعادت مجتمعاتٍ بأكملها إلى نقطة الصفر. الفقر في هذه الدول لم يعد حالة اقتصادية، بل قدرًا إنسانيًا مفروضًا على شعوبٍ أرهقها الصراع
إنّ الفقر ليس دائما ثمرة الكسل، كما يظنّ البعض، بل نتيجة خللٍ في العدالة وتوزيع الفرص. فحين يحتكر الأغنياء الثروة، وتُهدر الموارد العامة في الفساد، ويُستبعد الشباب من المشاركة الاقتصادية، يصبح الفقر سياسةً مقنّعة لا صدفةً قاسية.
ومن أبرز أسبابه في عالمنا العربي البطالة وضعف التعليم النوعي، الفساد الإداري والمالي، غياب التنمية المتوازنة بين المدينة والريف، اعتماد الاقتصادات على مورد واحد، الحروب والصراعات التي تلتهم كل مشروع تنموي.
كيف نواجه الفقر؟
مواجهة الفقر لا تبدأ من جيب المتبرع، بل من إرادة الدولة والمجتمع معًا. الصدقة تخفّف، لكنها لا تعالج؛ أما العدالة فتصنع الكرامة. ولكي نواجه الفقر، لا بدّ من رؤية شاملة تدمج بين التعليم والعمل والحوكمة الرشيدة، عبر
1- إصلاح التعليم وربطه بسوق العمل، فالمعرفة هي الثروة التي لا تُستنزف.
2- توسيع شبكات الحماية الاجتماعية بضوابط شفافة وعادلة.
3- تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تخلق فرص عمل حقيقية، وتدعم الابتكار المحلي.
4- تمكين المرأة اقتصاديًا، فهي عماد الأسرة والمجتمع.
5- مكافحة الفساد الإداري الذي يسر قوت الفقراء تحت مسمى البيروقراطية.
6- الاستثمار في الريف والمناطق المهمشة ليصبح الفقر استثناءً لا قاعدة.
7- بناء اقتصاد مرن يحصّن المجتمعات ضد الصدمات، والأزمات الصحية أو النزاعات.
الفقر لا يُقهر إلا حين تتحوّل السياسات إلى عدالة اجتماعية، لا مجرد وعود انتخابية.
الأدب صوت الفقراء. الإعلام مرآة العدالة
ما من قضيةٍ إنسانية كتب عنها الأدب العربي كما كتب عن الفقر. من صفحات نجيب محفوظ التي صوّرت أحياء القاهرة الشعبية كمرآة للعدالة الغائبة، إلى روايات غسان كنفاني التي جعلت الفقر مرادفًا للغربة، إلى أشعار السيّاب وأمل دنقل التي رفعت صوت الجائع ليصبح جزءًا من الوعي الجمعي للأمة.
الأدب لا يطعم فقيرًا، لكنه يوقظ العالم عليه. إنه ذاكرة الإنسانية حين تحاول أن تنسى. فالأديب، في جوهر رسالته، ليس راوياً للحكاية فحسب، بل شاهدٌ على الوجع، ومؤرّخٌ للعجز الإنساني أمام الظلم.
ومن هنا، فإن للأدب دورًا جوهريًا في تشكيل ثقافة التعاطف والوعي، فالمجتمعات التي تقرأ وجعها، تستطيع أن تغيّره.
أما الإعلام، فهو سلاح ذو حدين: إمّا أن يكون منبرًا يفضح الفقر، ويكشف مواطن الخلل، أو أن يتحوّل إلى وسيلة تلميعٍ للسياسات وتبريرٍ للتفاوت الطبقي. حين يتناول الإعلام قضايا الفقر بلغةٍ إنسانية لا موسمية، يصبح جزءًا من الحل، لا مجرّد ناقل للألم. لقد أثبتت التجارب أن قصة إنسانية واحدة صادقة قد تُحدث ما لا تحدثه التقارير الجافة.
الإعلام الصادق يصنع رأيًا عامًا ضاغطًا، والرأي العام يصنع التغيير. فلا تنمية بلا وعي، ولا وعي بلا كلمة حرة.
الفقر اختبار للأمم
إن الفقر ليس مجرد حالة اجتماعية، بل اختبار أخلاقي لحضارةٍ تدّعي التقدم. فحين يبيت طفلٌ عربيٌّ جائع في زمن تفيض فيه موائد الاستهلاك، فإن الخلل لا يكمن في القدر، بل في توزيع الثروة والرحمة. وحين يُترك اللاجئون على قارعة الحدود يقتاتون الانتظار، فإننا نفشل جميعًا في امتحان الإنسانية.
اليوم العالمي للقضاء على الفقر ليس ترفًا أمميًا، بل جرس إنذار يذكّرنا أن العدالة لا تتجزأ، وأن التنمية بلا إنصافٍ كبيتٍ بلا أساس. قد لا نقدر أن نمحو الفقر كله، لكننا نستطيع أن نحاصره بالوعي، وأن نحوله من قدرٍ صامت إلى قضيةٍ صاخبة، تشغل الضمير كما تشغل العناوين.
في النهاية، يبقى الفقر العدو الأول للكرامة، لا يُهزم إلا حين تتحد السياسة بالضمير، والاقتصاد بالعدالة، والثقافة بالوعي. فما لم نُدرك أن الإنسان أغلى من الناتج المحلي، وأن كرامة الفقير لا تُقاس بمقدار ما يُعطى، بل بمقدار ما يُنصف، سيظل الفقر يعيد نفسه في وجوهٍ جديدة كل عام.
“لو كان الفقر رجلاً لقتلته” عنوان يختصر مأساة الفقر في صورة درامية قوية، ويُظهر خطورته كعدوٍّ إنساني يجب مواجهته لا التعايش معه. يمكن أن يكون مدخلًا فقهيًا أو تاريخيًا للحديث عن رؤية الإسلام للعدالة الاجتماعية.
“القضاء على الفقر ليس فقط تحريرًا من الجوع، بل هو تحرير للإنسان من قيود الجهل والعجز والخوف”. لعلّنا نُدرك أن الحرب الحقيقية ليست ضد الجوع فحسب، بل ضد اللامبالاة. فالفقير لا يموت بالجوع، بل بالصمت.
سارة طالب السهيل