الواقع والممارسات تحت دائرة الضوء في المؤتمر الأول للابتكار وريادة الأعمال بجامعة الملك عبدالعزيز

أروى الزهراني – جدة
ضمن فعالياته المتنوعة، نظّم المؤتمر الأول للابتكار وريادة الأعمال في جامعة الملك عبدالعزيز، يوم الثلاثاء 29 -4 – 1447 عددًا من الجلسات الحوارية واللقاءات المتخصصة، التي ناقشت موضوعات متعددة تراوحت بين البحث العلمي، والابتكار، والتعليم العالي، والاستثمار، والتحول المؤسسي، وريادة الأعمال، إلى جانب تسليط الضوء على نماذج وطنية وتجارب جامعية واعدة.
اللافت في تلك الفعاليات انطلاقة الجلسات بإدارة قائد رؤية جامعة الملك عبدالعزيز ورئيسها: الدكتور طريف بن يوسف الأعمى، والتي عكست عمق التوجه الوطني نحو اقتصاد معرفي مستدام، قائم على الابتكار والتحول المؤسسي.
وفي إشارة إلى أهمية تمكين البحث العلمي من مغادرة الأدراج إلى أرض الواقع، انطلقت النقاشات بالتأكيد على أن كثيرًا من الأبحاث الجامعية ظلّت لفترة طويلة حبيسة الدرج، قبل أن تبرز الحاجة إلى دعمها بأدوات تمويل واستثمار تضمن خروجها إلى النور.
وقد وُصف الاستثمار الجريء بأنه “المسار الوحيد الذي أتاح لأفكار الطلاب ومنسوبي الجامعات فرصة الحياة”، في إشارة إلى تحوّل هذا النوع من الاستثمار إلى مظلة حقيقية للاحتضان والتمكين.
وفي واحدة من المداخلات المؤثرة، طُرح تساؤل جوهري: “لو لم يكن هناك من يؤمن بالأفكار الخارجة عن الصندوق، ويملك الشجاعة لاحتضان مشاريع قد تصل مخاطرتها إلى 100%، هل كنا لنجلس اليوم نتحدث عبر مايكروفون ناتج عن هذه الابتكارات؟”
تعبير يعكس قناعة راسخة بأن الإبداع لا يتحقق دون منظومة متكاملة من التمويل، والتجريب، والمجازفة المدروسة، وهو ما نشهده حاليًا من تمويل وتمكين ودعم عبر حاضنات الإبداع التي يُعد هذا المؤتمر شاهدًا حيًا عليها.
ومن واقع الاستثمار، إلى واقع الدراسات العليا؛ حيث جرى التأكيد على ضرورة تزويد الطلبة بـ”مهارات مساندة ومهارات تنظيمية”، لا سيما في ظل الحاجة إلى مخرجات أكثر ارتباطًا بالواقع التطبيقي.
كما طُرحت دعوة صريحة إلى إعادة النظر في نظام القبول، وفتح المجال طوال العام، بما يواكب تطورات التعليم المعاصر، إلى جانب تبنّي التعليم الإلكتروني المتزامن كنمط داعم للمرونة والتميّز، في معالجة مباشرة لتحديات حقيقية بحلول واقعية.
ولم تغب التحالفات البينية عن الطرح؛ إذ تم التطرق إلى ضرورة إقامة برامج تجمع بين التخصصات المختلفة، مثل الجمع بين “كلية العلوم والتربية”، أو “تقنيات التعليم والذكاء الاصطناعي”، لإنتاج حلول نوعية تتقاطع فيها الخبرة البحثية بالاحتياج المجتمعي.
كما سلّطت النقاشات الضوء على تجربة نوعية في إشراك الطلاب بعد التخرج، من خلال دعمهم بحثيًا لسنة كاملة، كنموذج يُسهم في “زيادة النشر العلمي واستمرارية العطاء الأكاديمي”.
وامتد الحديث ليشمل تحوّل الجامعات إلى بيئات إنتاجية، لا تكتفي بكونها مؤسسات تعليمية فقط، بل ترفد السوق بمخرجات فعلية قائمة على المعرفة. وقد أُشير إلى أن هذا التحول لم يكن في عدد التخصصات فقط، بل في “الفكر والطريقة التي باتت الجامعات تنظر بها إلى ريادة الأعمال”، والتي لم تعد مقتصرة على تخصص معين.
وانطلاقًا من التوجه ذاته، برزت مداخلات أكدت على أهمية الإرشاد الأكاديمي الفعّال، مشيرة إلى أن المشكلة ليست في “أفكار الطلاب”، بل في ضعف الوعي بالمسارات الممكنة، والخلط بين مفاهيم مثل “الحاضنة” و”المسرّعة”. وهو ما يُحتم على عضو هيئة التدريس تجاوز الدور التقليدي، ليصبح موجهًا ومرافقًا حقيقيًا للطالب.
وفي هذا الإطار، تم التشديد على أن النجاح المؤسسي يتطلب تنسيقًا عابرًا للجهات، وأن التكامل شرط أساسي لنجاح أي مبادرة، في حين يُعد التضارب عائقًا كبيرًا أمام الفاعلية.
لذا برزت الحاجة إلى بناء بيئات داعمة، من خلال الشراكات، والهيئات، وإنشاء الحاضنات الثقافية، وتنظيم ورش العمل المتخصصة.
كما استعرضت تجارب وطنية تبنّت مفاهيم “البحوث الانتقالية”، التي تسد الفجوة بين البحث الأكاديمي والتطبيق العملي، بالإضافة إلى مبادرات جامعية شاركت في مسابقات دولية وحققت مراكز متقدمة، مما يعكس حضور المملكة المتنامي في ساحة الابتكار العالمي.
وعلى مستوى السياسات، تمت الإشارة إلى “سياسة الوصول المفتوح للبنية البحثية”، التي أقرها مجلس الوزراء، بوصفها تحولًا نوعيًا يُمكّن الجامعات والقطاع الخاص من الاستفادة من البنية التحتية البحثية لدى الجهات الحكومية.
وقد قدّمت جامعة الملك عبدالعزيز نموذجًا بارزًا في ذلك، من خلال إصدار وثيقة مكوّنة من ستين صفحة، تُنظّم آليات هذا الوصول، وتُكرّس ثقافة الانفتاح والمشاركة.
وفي طرح مستنير، وُصفت مقاومة التغيير بأنها أحد أقوى التحديات التي تواجه الابتكار المؤسسي، الذي لا يزال حديثًا نسبيًا، ويحتاج إلى بيئة أكاديمية محفّزة لا تكتفي بالدعوة، بل تُكافئ وتُحفّز وتُكرّم الجهد.
وانطلاقًا من الإيمان بأن النجاح لا يُقاس فقط بالنشر العلمي، بل بالأثر العملي والاقتصادي، نُوقش بُعد جديد في البحث، يدعو إلى فهم السوق قبل الشروع فيه، وذلك بطرح سؤال جوهري:
“هل ستتحول هذه الفكرة إلى منتج حقيقي؟” — وهو ما يعكس التحول من البحث الأكاديمي إلى المنتج الفعلي، ومن المختبر إلى السوق.
وفي ختام هذه الجلسات، التي جمعت ممارسات واقعية، ومبادرات طموحة، وتجارب رائدة، برز التنوع الكبير في الرؤى، والتكامل في الطروحات، بما يعكس حجم الجهود الوطنية لتأسيس منظومة ابتكار شاملة، تقودها الجامعات، وتدعمها السياسات، ويحتضنها القطاع الخاص، للانتقال من النظرية إلى واقع فعلي، يترجم طموح رؤية المملكة 2030 في بناء اقتصاد وطني منافس، قائم على المعرفة والتقنية.
ويُعدّ هذا المؤتمر الأول من نوعه نموذجًا مشرّفًا يليق بجامعة الملك عبدالعزيز وقيادتها، وبالمملكة العربية السعودية، التي تمتثل لرؤيتها كل قيادة وطنية واعية تسعى لبناء المستقبل.