المعلّم والاحتراق الوظيفي

الإعلامي / صالح المحجم

يظلّ المعلّم حجر الأساس في بناء الإنسان، ونافذته الأولى نحو العالم، وأصل التكوين الذي تتفرع منه كل المهن. ورغم هذه المكانة الراسخة، يعيش المعلّم اليوم واقعًا مقلقًا من الاحتراق الوظيفي، تتراكم فيه الضغوط وتتراجع فيه الرعاية، حتى يصبح الجسد أثقل من أن يحتمل، والنفس أكثر إرهاقًا من أن تُخفي ما يعتريها. يدخل المعلّم مهنته مشبعًا بالشغف، مؤمنًا بأن التعليم رسالة قبل أن يكون وظيفة، وأن بناء عقل طفل مهمة تستحق العمر كلّه؛ غير أنّ هذا الإيمان يصطدم عبر السنوات بسلسلة مهام متلاحقة، ومسؤوليات تتسع خارج الفصل، وضجيج لا يهدأ، وتوقعات لا تنتهي، فيما يتضاءل التقدير يومًا بعد يوم.

ولعلّ أقسى ما يواجهه المعلّم ليس كثرة العمل، بل شعوره بأن جهده بات أمرًا مفروغًا منه، لا يُلتفت إليه إلا عند الخطأ. فالمجتمع يحتفي بمختلف أصحاب المهن، لكنه ينسى —أو يتناسى— أن المعلّم هو الأصل الذي خرجت منه كل تلك التخصصات. وقد لخّص أحدهم هذه الحقيقة في قصة بليغة حين قال: في حفل حضره عدد من أصحاب المهن، وقف الأول وقال: أنا ضابط. والثاني قال: أنا طبيب. والثالث قال: أنا مهندس. أما المعلّم فوقف بثقة هادئة وقال: وأنا من خرج من تحت يدي كل هؤلاء. ومع ذلك، يبقى صاحب هذه العبارة آخر من ينال نصيبه من الاهتمام والحماية.

وفي مقابل هذا التجاهل، نجد دولًا أدركت مبكرًا أن نهضتها تبدأ من مكانة المعلّم. ففي اليابان —حيث يُنظر إلى المعلّم بوصفه ركيزة الأمة— قال أحد رؤسائها مقولته الشهيرة: “ابتعد عن المعلم سبعة أقدام حتى لا تدوس على ظله بالخطأ.”
هذه العبارة ليست مجاملة عابرة، بل فلسفة دولة تؤمن أن احترام المعلّم خطوة أولى نحو التقدّم. بل إن بعض التصريحات تشير إلى أن الإمبراطور الياباني أكد أن منح المعلّم مكانته الرفيعة كان أحد أهم أسباب ازدهار اليابان وتفوقها، في رسالة واضحة مفادها: حين يصان المعلّم، تنهض الأمة.

وتكشف تفاصيل اليوم الدراسي حجم الضغط الذي يعيشه المعلّم؛ فالوالدان اللذان يجدان صعوبة في احتمال ضجيج أطفالهما لساعات معدودة، لا يدركان أن المعلّم يتعامل مع هذا الضجيج سبع ساعات يوميًا، بين عشرات الطلاب، مسؤولًا عن تعليمهم وتوجيههم وضبط سلوكهم ومتابعة تقدمهم، وكل ذلك دون أن يفقد اتزانه أو يتراجع عطاؤه. إن ما يهدره المعلّم من صحته وهدوئه في تلك الساعات يتراكم عامًا بعد عام، حتى يترك آثاره واضحة على الجسد.

وليس غريبًا —بل أصبح واقعًا متكرّرًا— أن يغادر المعلّم الميدان عند التقاعد مثقلًا بأمراض شائعة بين أهل التعليم: داء السكري الذي تغذّى على التوتر، وارتفاع الضغط الذي رافقه طوال سنوات المسؤولية، وآلام الظهر والانزلاقات التي صنعتها ساعات الوقوف الطويلة، واضطرابات النوم التي باتت جزءًا من حياته اليومية. يخرج المعلّم من المهنة منهكًا، لا لأنه لم يحب عمله، بل لأنه أحبّه بصدق حتى استنزف من روحه وصحته ما لا يعوّض.

ومع ذلك، يواصل المعلّم أداء رسالته في صمت، وفي داخله يقين بأن الأثر الذي يتركه في نفوس طلابه هو المكافأة الحقيقية. إلا أنّ الشعور النبيل لا يكفي وحده؛ فالمعلّم بحاجة إلى بيئة تحترم إنسانيته قبل وظيفته، وتدرك أن حمايته ليست خيارًا، بل أساس لاستمرار التعليم. فالمعلّم المنهك لا يبني طالبًا متزنًا، والمتعب لا يصنع تعليمًا فعّالًا مهما حاول.

إن احترام المعلّم وحماية صحته مسؤولية مجتمع بأكمله، لا مسؤولية المؤسسات التعليمية وحدها. فالمعلّم ليس موظفًا يؤدي مهام يومية، بل هو صانع أجيال، وباسمه تبدأ كل قصة نجاح. ومن يتأمّل واقع الميدان اليوم، يدرك أن مستقبل التعليم لن يستقيم ما لم تُصن تلك الركيزة التي يقف عليها المعلّم منذ الفجر ليصنع من بين يديه عقولًا قادرة على النهوض بالوطن.

وهكذا، يبقى المعلّم —رغم كل شيء— هو البداية لكل إنجاز. هو من خرج من تحت يده الطبيب والمهندس والضابط، وهو من يستحق أن يُقال له قبل فوات الأوان: شكرًا… لا لأنك علّمت فحسب، بل لأنك واصلت تعليمك رغم كل ما هُدر منك في الطريق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى