لسنا فقراء في الأشياء… بل فقراء في المعاني.

 

لسنا فقراء في الأشياء، نحن فقراء في المعاني.
فكلما بالغنا في تقديس الرمز، تضاءلت الحقيقة خلفه، حتى صرنا نرفع اللافتة ونهمل الطريق، ونحفظ الشكل ونضيّع الروح.
عندما تُصبح لوحة السيارة أغلى من السيارة نفسها، لا نكون قد عظّمنا الرمز، بل جرّدنا المعنى من قيمته. كأننا نقول إن الاسم أهم من المسير، وإن العنوان أصدق من الرحلة. وحين ترتفع قيمة الأرض فوق قيمة المسكن، نكون قد عبدنا المساحة، ونسينا أن البيوت لا تُقاس بالأمتار، بل بما تسعه من طمأنينة، وما يظلله سقفها من قلوب متآلفة.
وفي أعراسنا، حين يثقل الاحتفال كاهل العروسين أكثر من المهر، نكون قد قدّمنا الضجيج على السكينة، والعرض على الجوهر. نسينا أن الزواج سكنٌ قبل أن يكون مناسبة، ورحمة قبل أن يكون صورة، وعهدُ قلب قبل أن يكون صالة مكتظة بالأضواء.
وحين ترتفع كلفة التوصيل فوق ثمن الوجبة، ندرك أن العجلة صارت معبودًا خفيًا، وأن السرعة أزاحت الذوق، وأن القناعة لم تعد تُغري أحدًا. صرنا نأكل لنلحق، لا لنستمتع، ونصل لنُسجّل حضورًا، لا لنحضر حقًا.
وفي زحام هذه المفارقات، حين يصبح صفاء البشرة أهم من صفاء القلب، نعلم أننا لم نُخطئ الطريق فحسب، بل بدّلنا البوصلة. صرنا نُلمّع الواجهات ونُهمل الداخل، نُتقن ترتيب الصور ونفشل في ترتيب القيم. نحسن فن الظهور، وننسى فن الحضور؛ نُجيد الوقوف أمام العدسة، ونعجز عن الوقوف أمام أنفسنا بصدق.

الصوفي لا يعادي الجمال، لكنه يخشى أن يُختزل في قشرة. لا يزهد في الدنيا، لكنه يرفض أن تسكن قلبه. يعلم أن كل ما يُلمع ليس نورًا، وأن النور الحقيقي لا يُرى بالعين، بل يُذاق بالقلب. فالقيمة ليست فيما نملك، بل فيما لا نُباع لأجله.

حين نسير عكس الاتجاه، لا نحتاج إلى طريق جديد، بل إلى قلبٍ مُعاد ضبطه على الحقيقة. إلى بوصلة تُشير إلى الداخل قبل الخارج، وإلى معنى قبل مظهر، وإلى سكينة تُغنينا عن ضجيجٍ لا ينتهي. فهناك، فقط هناك، يبدأ الصحو… ويعود الإنسان إنسانًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى