من قاع القسوة… إلى قمة العفو

بقلم الإعلامي:صالح المحجم

طالبة في المرحلة المتوسطة تكتب قصة قصيرة وتشارك بها أمام زميلاتها ومعلماتها
لم تكن تعلم أن واجب التعبير ذلك الصباح سيتحوّل إلى لحظة لا تُنسى.
دخلت الطالبة “وجد” الفصل ودفترها بين يديها تحمل قصة قصيرة كما طُلب منها ، لكنها لم تكن تعلم أن ما كتبته لم يكن مجرد حروف ، بل عمرًا كاملًا من الوجع المؤجَّل.
جلست في مقعدها تُنصت لزميلاتها وهنّ يقرأن قصصًا متشابهة خيالٌ بسيط نهايات سعيدة وأبطال يولدون من الورق ويعودون إليه.
وحين نُودي اسمها نهضت بخطوات مترددة وكأن قلبها يسبق صوتها وكأن الدفتر صار أثقل من أن يُحمل.
بدأت القراءة… وكان الصمت أول من أصغى.
لم تكن القصة طويلة لكنها كانت مثقلة بالحزن.
تسرد حكاية طفلٍ لم يعرف معنى الأمان ولا طعم الاحتواء.
طفلٍ كبر قبل أوانه وتعلّم الصبر لا لأنه أراده بل لأنه لم يجد خيارًا آخر.
كلما تقدّمت في السرد انخفض صوتها وارتجفت كلماتها وبدأت الدموع تتسلل إلى عينيها دون استئذان.
تغيّرت ملامح المعلمات وانحنت الرؤوس وسكنت الأنفاس.
لم يعد الفصل فصلًا بل صار شاهدًا على حكاية موجعة.
بدأت في قراءة قصتها…. قالت : كانوا قديمًا وتحديدًا في الأجيال التي سبقت عام ١٣٩٠هـ، يرون أن بشارة الرجل بمولودة عارٌ يُخفى وخبرٌ يُستقبل بالصمت أو الضيق لا بالفرح والامتنان.
تحكي قصتي عن رجلٍ رُزق بمولودة فلما بُشّر بها أسودّ وجهه وضاق صدره وكأن القدر أخطأ الطريق إليه.
ولم تمضِ سوى شهرين حتى توفيت تلك الطفلة رحمها الله.
وبعد زمنٍ قصير عاد القدر يمنحه مولودة أخرى فازداد حياءً وأخفى الخبر عن جماعته وأقاربه وكأن الأنثى ذنبٌ يُستتر.
ثم شاء الله أن يرزقه بعد عامٍ بمولودٍ ذكر فامتلأ قلبه فرحًا وضجّ البيت بالبشارات.
لكن تلك السعادة لم تطُل على الطفل فقد بدأت مع سنواته الأولى محطة العذاب.
منذ نعومة أظفاره حُمِّل ما لا يُحتمل من مسؤوليات وكأنه وُلد ليعوض شيئًا مكسورًا في نفس أبيه.
أكمل الصفوف الأولى من الابتدائية وكان يحاول أن يكون “كما يريد والده”، لا كما يريد قلبه.
وفي أحد الأيام عاد الأب من الخارج وقد أحضر عشاءً بسيطًا فولًا وتميسًا.
سارع الطفل لمساعدته وحمل بعض الأكياس صاعدًا بها إلى أمه لكن كيس الفول سقط من يده كان أبوه خلفه
رأى المشهد ولم يرَ طفلاً… بل رأى خطأً لا يُغتفر.
وبلا تفكير
ولا رحمة
ولا عاطفة أب
طُرد الطفل من البيت.
عاش في الشارع قرابة ثلاثة أشهر ، حتى اتفق الأب مع أخته التي تسكن مدينة أخرى أن تأخذه بعيدًا عن ناظريه.
لم يكن ذلك رحمةً، بل إبعادًا. هناك
عاش الطفل خادمًا
يكنس
وينظف
ويُهان
مقابل أن يُسمح له بإكمال دراسته.
كان لعمته طفلٌ واحد، أصغر منه بعام يراه مدللًا محاطًا بالحب ، بينما هو يتلقى القسوة ذاتها كل يوم. صبر…
ليس لأنه قوي بل لأنه كان يحلم بشيء واحد أن يكمل تعليمه.
أكمل المرحلة الابتدائية وكانت تلك السنوات هي الأصعب في عمره.
ثم جاءت والدته ومعها والده. وما إن رآها حتى ارتمى في حضنها، باكيًا: “أنقذيني… تعبت… أريدك… أريد إخوتي
وبعد محاولات طويلة لاستخراج شيء من الرحمة في قلب الأب وافق على عودته.
لكن العودة لم تكن نهاية العذاب بل بدايته من جديد.
أكمل الصف الأول المتوسط ثم الثاني.
وفي الترم الأول نجح بتقدير “جيد جدًا لكن في الترم الثاني وفي وقت اختبارات وكان لديه اليوم التالي اختبار مادة القواعد طلب منه والده أن يترك المذاكرة ليغسل السيارة.
وحين رفض وبكى مزّق الكتاب… ثم طرده مرة أخرى.
عاش الطفل ثلاث سنوات في الشارع تنقل بين المقاهي الشعبية يبحث عن عمل يسد جوعه.

عمل مقدم طلبات في احدى المقاهي الشعبية
وكان عندما ينتصف الليل ينتظر المطعم المجاور حتى يُغلق ويلقون بالمتبقي من الأكل في الحاوية
ثم يتسابق مع الحيوانات إلى حاوية القمامة ليأكل مما بقي من الطعام.
رآه أحد العمال فرقّ لحاله وعرض عليه العمل معهم مقابل أن ينام في المقهى ويأكل ويشرب معهم فوافق.
وبعد عام اتصل على هاتف المنزل القديم. ردت والدته بكى وفرح حين سمع صوتها.

قال : تعبت… أريد أن أراك
قالت : تعال… سأراك من النافذة
والدك يغلق الباب بالمفتاح
انطلق فرحًا انه سيرى والدته بعد سنة كامله
وفي شارعٍ مزدحم صدمته سيارة. نهض والدم يسيل من قدميه
لم يبكِ إلا شوقًا ومضى نحو النافذة.
رأته أمه… رأت فلذة كبدها غارقًا في الدم.
لم تحتمل ذلك المنظر لم تستطع فتح الباب له واخذه في احضانها
أعطته ضمادات كي يضمد جروحه التي بسبب ذلك الحادث له وأغلقت النافذة واختفت
انتظرها وانتظرها ولكنها لم تعود وتفتح تلك النافذة
في المساء عاود الإتصال ردت أخته الكبرى تبكي وتقول أمي انهارت بعد رؤيتك وانت في ذلك الحال… وتم نقلها للمستشفى واخبرونا أن لديها هبوط في القلب
ومع ذلك… لم يلن قلب الأب
استمر الطفل في الشارع ثلاث سنوات
حتى جاءه الفرج حين عرض عليه شخص تسجيله في القطاع العسكري.
وافق وبدأت له قصة جديدة مع العذاب الجسدي
تحمل وصبر لأنه وجد في ذلك العذاب الرحمه الكثيره من الشارع
وتخرج من الدورة
ونُقل إلى مدينة تبعد ألف كيلومتر عن أمه.
اربع سنوات من الغربة
ثم نُقل بطلبه إلى مدينة والدته.
عاد إلى بيت والده
فاستُقبل بفرح… لا لأنه عاد بل لأن راتبه عاد معه.
قال له والده إن أردت الجلوس معنا… ادفع من راتبك
فوافق فقط ليقترب من أمه.
مرت السنوات تزوج وأنجب أربع بنات
خدم في العسكرية عشرين عامًا ثم تقاعد مبكرًا.
بدأت حياته تتغير بزوجة صالحة وأربع بنات بارات.
وفي يوم من الأيام قالت له ابنته الكبرى أخجل أمام معلماتي أن أقول إن أبي لا يحمل إلا شهادة أول متوسط”.
وعدها… ووفى.
أكمل تعليمه نال الشهادات العليا والدورات
واستُقطب للعمل في جهة مرموقة. برز في الإعلام
وتوالت التكريمات وتقلد أعلى المناصب وأصبح اسمًا يُشار إليه.
أما الأب… فتدهورت حالته.
تزوج شابة
وابتعد عنه الجميع.
ولم يبقَ إلى جواره سوى ذاك الابن الذي عذبه.
كان يبكي كلما رآه
ويقول لحفيداته
قولوا لأبيكم أن يسامحني
وحين وصلت إلى السطر الأخير، توقفت…
رفعت رأسها
وبصوتٍ مكسور قالت هذا الطفل… هو والدي
لم تعد الكلمات قادرة على الوقوف ولا الدموع على التوقف.
بكت الفتاة
وبكت زميلاتها
وبكت المعلمات
لأن القصة لم تكن خيالًا بل حقيقةً عاشها رجل وتوارث وجعها قلب ابنته.
هذه ليست قصة حزن عابر بل شهادة إنسانية عن القسوة وعن الصبر وعن انتصار الروح حين تُكسر مرارًا ولا تموت.
وما سيأتي بعد هذه الصفحات… ليس سردًا بل حياة كُتبت بالدمع وخُتمت بالعفو.
قبلت رأسها مديرتها وقالت لها يحق لكِ ان تفخري بوالدك

الخاتمة…..
ليست القسوة هي ما دمّر هذا الرجل…
بل الفكرة التي زرعت في قلب أبيه أن القوة تُصنع بالأذى
وأن الرجولة تُثبت بالكسر
وأن السلطة تُمارس حين يُمنع الحب.
لم يكن الأب شيطانًا كاملًا
ولا الابن ملاكًا منزّهًا
لكن الفارق بينهما أن أحدهما تعلّم كيف يؤلم
والآخر تعلّم كيف يسامح.
في هذه الحكاية لم ينتصر الدم على الدم
ولا الجرح على الجرح
بل انتصر الإنسان حين قرر أن يقطع سلسلة القسوة
عند نفسه… لا عند أبيه.
فأقسى ما يمكن أن يفعله المظلوم
ليس أن ينتقم،
بل أن يربّي أبناءه دون أن يورّثهم وجعه
وأن يفتح قلبه للحياة دون أن يغلقه على ماضيه.
وهنا فقط… نكتشف أن العفو ليس ضعفًا بل أعلى درجات القوة
وأن من نجا من القسوة ولم يتحول إلى نسخةٍ منها هو الناجي حقًا.
هذه ليست نهاية قصة بل محاكمة صامتة لكل قسوةٍ نمارسها ونظن أنها ستمرّ بلا ثمن.
فأذا صمت المظلوم… لن يصمت رب المظلوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى