القرابة..سُمٌّ وبلسم

✍️هيا الدوسري

يقول المثل الشهير: “الأقارب عقارب”، ومع مرور الزمن لا يزال هذا القول يجد صداه في كل بيت تقريبًا.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا يصبح القريب في كثير من الأحيان أشد عداوة من الغريب؟
أهي صلة الرحم التي كان يُفترض أن تقرّب القلوب، أم أنها في بعض الأحيان تفتح أبواب الحسد والخصام؟

القريب يعرف تفاصيلنا أكثر من غيره، ويشاركنا في أمور المال والرحم والمكان، ولهذا يكون أكثر الناس قدرة على إيذائنا إن أراد.
فكلما زادت الشراكة، زادت مساحة النزاع، وكلما اقتربت المسافة، ازداد الاحتكاك، حتى يصبح القرب ذاته سُمًّا قاتلًا.

أما الغريب، فقلوبنا معه أنقى وصفحاتنا معه بيضاء، لا تنافس ولا غيرة ولا طمع. لهذا تنجح علاقاتنا مع الغرباء أكثر من نجاحها مع الأقارب، فالغريب لا يعتب ولا يتدخل، ولا يزرع بيننا الغيرة أو يطمع فيما نملك.

يقول الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد:

وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً
على المرء من وقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ

وكأن هذه الأبيات كُتبت لتصف ما نشهده اليوم من حروبٍ خفية داخل البيوت، حروب تبدأ بالغيرة وتنتهي بالقطيعة والكره،
فمنذ ابني آدم، قابيل وهابيل، كانت الغيرة أول لعنةٍ سرت بين الأقارب، فأزهقت روحًا بريئة وخلّدت درسًا أبديًا: أن الحسد يسكن حيث يلتقي الدم بالدم.

ولعلّ الأم حين تنجب طفلًا جديدًا،
لا تدري أنها أحيانًا تشعل نار الغيرة في قلب طفلها الأول، فيبدأ شعور الرفض منذ تلك اللحظة البريئة.
وهكذا يكبر الغضب الصغير حتى يصير عُقدة أو خصومة، إلا من رحم الله.

قيس وليلى.. والحب المغدور

تأملوا قصة قيس بن الملوّح الذي أحب ابنة عمه ليلى، فكان من حال بينهما هم الأقارب أنفسهم.
زوجة العم المتسلطة، والأب الذي خضع لها، فأبعدوه عنها رغم حبٍّ طاهر لم يجنِ منه إلا الجنون.
لقد كان القرب بينهما سببًا في الفراق، كما يكون القرب في كثير من الأحيان سببًا في العذاب.

كم من فتاة كانت تُجبر على الزواج من ابن عمها باسم “صلة الرحم”!
تُسلب حقها في الاختيار، وتُحبس في زواج لا تريده، في حين يظن أهلها أنهم يحافظون على النسب، وهم في الحقيقة يقتلون روحها ببطء.

بل قد يقف ابن العم حجر عثرة في طريق زواجها من رجلٍ تختاره بنفسها، لا لشيء، إلا لأنه يرى نفسه “أحقّ” بها من الغريب، وكأنها متاعٌ يُورّث لا إنسانة لها قلبٌ وإرادة.

بين الدم والرحم

كلما امتزجت العروق وتشابكت المصالح، ازداد خطر السمّ الذي يسري في صلة الدم، حتى يغدو بعض الأقارب عبئًا على القلب لا عزاء له.
وليس هذا اتهامًا للقرابة، بل تحذير من سوء استخدامها، فالقرب إذا خلا من الرحمة، انقلب عداوة.

لقد حذّرنا النبي ﷺ من زواج الأقارب المفرط حين قال؛ “تَخَيَّروا لِنُطَفِكُم” إشارة إلى ضرورة التباعد في النسب، فإن التقارب الزائد يورث ضعفًا في الأجساد، وفي العلاقات أيضًا.

بين حبٍّ مسموم وغيرةٍ موروثة، تتكرر حكايات الأقارب التي تنقلب إلى عقارب.
ليس الدم وحده من يصنع القرب، بل النية الصافية والقلوب الرحيمة.
فالقريب لا يُقاس بقرابته، بل بصفاء قلبه، والغريب لا يُقاس ببُعده، بل بمحبته ووفائه.

المرأة بين التملك والوصاية

إن ما يُمارسه بعض أبناء القبائل في الزمن الماضي من حجرٍ على المرأة في الزواج أو الاختيار، هو نوع من التملك لا يختلف عن تملك المال أو الأرض أو الماشية.
فالمرأة تُعامل أحيانًا كسلعة، لا كإنسانة لها عقلٌ وروحٌ ومشاعر، تحب وتكره، وتفرح وتحزن، وتُريد أن تُختار لا أن تُجبر.

وسواء اقترب الأقارب أو ابتعدوا، يبقى الجفاء قائمًا ما دامت النفوس مشحونة، فالقرب وحده لا يصنع المودة، بل ربما يُسقط الكلفة ويزيد الجرأة والعداء، حتى يغدو النسب سيفًا يقطع بدلاً من أن يصل.

القرابة داء لا دواء له؟

سأل أحد الصحابة رسول الله ﷺ وقال: “يا رسول الله، إن لي قرابةً أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليّ”،
فقال ﷺ: “لئن كنت كما قلت فكأنما تُسفُّهم المَلَّ، ولا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دمت على ذلك.”
أي أن صلة الرحم، رغم قسوة الرد، تُحرجهم وتؤلمهم كما لو أنهم يُطعَمون رمادًا حارًّا، لكنّ الله يُعين الواصل ويُؤجره على صبره.

وأول سموم الأقارب لا يظهر في الخصام العلني، بل يختبئ في هيئة مرضٍ أو همٍّ أو حزنٍ يتوارثه الأبناء، حتى يصبح كالداء العضال الذي يسري في الأجيال.
وقد قال ﷺ: غَرِّبوا النكاح”
وفي حديث آخر: “تباعدوا فإن العِرقَ دسّاس”
فالصفات والطبائع – حَسَنُها وقبيحها – تظهر في الأبناء كما يظهر الزبد على وجه الماء.
ولهذا أوصى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بني السائب حين رأى ضعف نسلهم،
أن يتزوجوا من الغريبات، حفاظًا على قوة الدم وصفائه.

وروى أحد الصحابة أن رجلًا جاء إلى النبي ﷺ وقال: “يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، وأبواه أبيضان”،
فسأله ﷺ عن إبله وألوانها، فقال الرجل: “حمرٌ فيها أورق”،
فقال له ﷺ: “فلعلّها نزعةُ عِرقٍ، وهذا كذلك نزعةُ عِرقٍ.”
وهذا تأكيد أن الطبائع والصفات تُورَّث، كما تُورَّث الملامح والألوان.

القرابة سلاح ذو حدين

ومهما بلغ الخلاف والعداء بين الأقارب، يبقون عزوة الإنسان وسنده في الشدائد.
فالقرابة، وإن شابها النزاع، تظل في أصلها رابطًا من الدم لا يُقطع بسهولة.
والشرفاء من أبناء العمومة لا يخذلون ابن عمهم عند الضيق، بل يهبّون لنجدته والوقوف معه، وإلا لاحقهم العار في مجالس الرجال.

وابن العم، وإن كان يومًا غصّةً في حلق ابنة عمه، فقد يكون في يومٍ آخر سترها وسندها، وربما تزوّجها بعد أن تقدمت بها السنّ وافتقرت، سترًا ورحمة، واحتسابًا للأجر والثواب.
فلا غنى للإنسان عن رحمه، فهم لحمه ودمه، ومن شيم الكرام أن يصلوا أرحامهم مهما كانت الجراح عميقة،
فقد قال ﷺ: “لا يدخل الجنة قاطع رحم.”

وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: “الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله.”

خاتمة:

الرحم لا تُشترى

مهما بلغت الدنيا مالًا وجاهًا، لا يُغني ذلك عن صلة الرحم، فهي ميزان الكرامة الإنسانية.
وقد عبّر أحد الشعراء عن ذلك بأبياتٍ بليغة:

إلا الرحم يا ذيب احذر وانتبه
قطع الصِّلة فيها المآثم والذنوب
هاذي نصيحة قلتها من تجربة
لا تظنّ مالك يغطي أو ينوب
والي توزك تبتعد كالعقربة
هاذي اسمها هادمة كل الشعوب
أمك وأختك، عمتك والمقرّبة
يا كيف شمسك عنهم تصبح غروب
فكّر وعقلك راجعه أو رتّبه
تلقى الموسوس دائمًا زايف كذوب
مهما علا حظك وزادت مرتبة
لا خير في قاطع رحمٍ ما لم يتوب.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى