الوفاء عند الشدائد… معدنُ الرجال وميزانُ القلوب

بقلم: د. عثمان بن عبدالعزيز آل عثمان
الشدائدُ لحظةٌ فاصلةٌ تكشف معادنَ البشر؛ ففي الرخاءِ يكثرُ المادحون وتتنوّعُ الوعود، أمّا عند المحنِ فلا يبقى إلا الأوفياء. أولئك الذين يثبتون رغم العواصف؛ لا يتخلّون ولا يتغيّرون، بل يزدادون قُربًا وإخلاصًا. والوفاءُ عند الشدة ليس شعارًا يُردَّد، بل سلوكٌ عمليٌّ يتجلّى في عونٍ صادق، وكلمةٍ طيبة، وموقفٍ نبيل، وإيثارٍ تُقدَّم فيه مصلحةُ الآخرين على النفس.
وقد أمر اللهُ سبحانه وتعالى بحفظ العهود فقال: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 34]. وأرشد النبيُّ ﷺ إلى نُصرة الأخ فقال: «انصرْ أخاكَ ظالمًا أو مظلومًا»؛ أي تمنعه من الظلم، وتعينه إذا وقع عليه الظلم. وقال ﷺ: «المسلمون على شروطهم»، دلالةً على أن الوفاء بالعهد والالتزام به من شمائل الإيمان لا من شِيَم النفاق.
ولطالما مجّد العربُ الوفاءَ وعدّوه من أشرف الخصال التي تعلو بالإنسان فوق المناصب والألقاب؛ فقال شاعرهم:
«ولا خيرَ في وُدِّ امرِئٍ مُتلوِّنٍ
إذا الريحُ مالَت مالَ حيثُ تميلُ»
فالوفيّ لا يتقلب بتقلّب الأيام، ولا يغيّر موقفه إذا تبدّلت الظروف؛ بل يظلّ ثابتًا كالجبل، يُشعرك بالأمان ويُضيء عتمة الطريق. وفي مشهدٍ بسيطٍ نرى مريضًا طالت محنته، قلّ زائروه وتباعدت المواعيد، غير أن صديقًا واحدًا لزمَه؛ يخفّف عن أسرته الأعباء، يقضي حوائجه بصمت، ويستر ضعفَه عن الناس. ذلك هو الوفاء في صورته النقيّة: عملٌ صادقٌ بعيدٌ عن الضجيج.
والوفاءُ في الشدائد لا يقف عند المساندة المادية، بل يمتدّ إلى صيانة السرّ، وحفظ الكرامة، ودوام السؤال والدعاء، والاستمرار بعد زوال الأزمة؛ لأن الوفاء مرتبطٌ بالجوهر الأصيل لا بالظرف العابر. إنّه امتحانٌ تُترجم فيه المبادئُ إلى مواقف، وتنكشف فيه القلوبُ الصادقةُ من القلوب المتقلّبة، فيُكتبُ للأوفياءِ ذِكرٌ حسن، ويظلّ حضورُهم شاهدًا على نقاء الأرواح.
وقال شاعرٌ آخر:
«جزى اللهُ الشدائدَ كلَّ خيرٍ
عرفتُ بها صديقي من عدوّي»
وهكذا تكشف الشدائدُ معادنَ الرجال، وتميّزُ بين الوفاءِ الزائف والوفاءِ الحق، فتظلّ المواقفُ المُشرّفةُ علامةً لا تُنسى في تاريخ النفوس الصافية.
يبقى الوفاءُ عند الشدائد امتحانًا حقيقيًا تُثبِتُ به النفوسُ أصالتَها، وتُحفَظُ به المروءة، وتُبنى به جسورُ الثقة بين القلوب ،وكسب أجر من رب العالمين.
هذا المقالُ اجتهادٌ شخصيٌّ؛ فإن أصبتُ فمن اللهِ سبحانه وتعالى وله الحمدُ والرِّضا، وإن أخطأتُ فنسألُ اللهَ سبحانه وتعالى العفو. ويسعدني تلقي الملاحظات على البريد الإلكتروني: [email protected].