حماية الأطفال من خطر الألعاب الإلكترونية: بين التسلية والتهديد الخفي

 

بقلم: الدكتور عثمان بن عبدالعزيز آل عثمان

عصر التقنية الرقمية والتطور المتسارع جعل الألعاب الإلكترونية جزءًا لا يتجزأ من حياة الأطفال اليومية، فهي توفر متعة وإثارة، وتثير فضولهم، وتكسبهم مهارات تقنية بطرق غير تقليدية. إلا أن وراء هذا العالم الملون والممتع تهديدات خفية قد تهدم النمو النفسي والسلوكي للأطفال، وتؤثر على شخصياتهم وقيمهم. لم تعد الألعاب مجرد وسيلة للترفيه، بل أصبحت قضية تربوية واجتماعية وصحية، تتطلب رؤية واضحة وجهودًا مشتركة من الأسرة والمدرسة والمجتمع.

تتسم الألعاب الإلكترونية بخاصية الإدمان الرقمي لما تحمله من جاذبية عالية وإثارة مستمرة، فهي قد تروّج للعنف والعدوانية، إذ تغرس بعض الألعاب في نفس الطفل روح الانتقام والتنافس غير الشريف، ما يضعف إحساسه بالتعاطف والتعاون. الإفراط في اللعب يقلل من التفاعل الاجتماعي الواقعي، ويزيد من القلق والاكتئاب، ويؤثر على التحصيل الدراسي والمهارات الحياتية. كما تحتوي بعض الألعاب على مضامين فكرية وثقافية منحرفة أو رموز دينية وثقافية مشبوهة، تروّج لممارسات لا أخلاقية وتهدد الهوية والقيم. إضافة إلى ذلك، قد تشكل الألعاب التي تجمع البيانات الشخصية أو تطلب الوصول للكاميرا والموقع الجغرافي خطرًا حقيقيًا من الاستغلال الإلكتروني أو الابتزاز.

الألعاب الإلكترونية ليست مجرد وسيلة للترفيه، بل أداة تعليمية غير مباشرة تُشكّل وعي الطفل وتوجّه سلوكه. الأطفال الذين يعتادون ألعاب العنف يتقمصون شخصيات المقاتلين، فينعكس ذلك على تصرفاتهم اليومية ويضعف إحساسهم بالرحمة والتعاون. الألعاب التي تركز على الترف والمظاهر المادية تغرس في الطفل نزعة الأنانية، وتجعل المال والمظهر معيارًا للسعادة والنجاح، بينما الإفراط في الألعاب يُضعف التفكير النقدي، ويجعل الطفل تابعًا للتأثيرات الخارجية أكثر من كونه مبدعًا أو مستنيرًا.

الأسرة تمثل خط الدفاع الأول لحماية الطفل، من خلال مراقبة محتوى الألعاب واختيار ما هو آمن وتعليمي، وتنظيم أوقات اللعب بحيث لا تؤثر على الدراسة والعبادات والأنشطة الاجتماعية، وفتح قنوات حوار مستمرة مع الطفل حول الألعاب وما يراه ويلعبه، لتعزيز وعيه وقدرته على النقد الذاتي. كما ينبغي توجيه الطفل نحو بدائل آمنة مثل الألعاب التعليمية، والحركية، والتراثية، والأنشطة التطوعية التي تعزز روح المسؤولية والقيم الإنسانية. المدرسة بدورها تتحمل مسؤولية كبيرة، عبر إدخال التوعية الرقمية ضمن المناهج وتشجيع الأنشطة الجماعية بعيدًا عن الشاشات، بينما يضطلع المجتمع والمؤسسات الرقابية بحماية الأطفال عبر فرض رقابة صارمة على محتوى الألعاب وتنفيذ حملات توعوية مستمرة، وتوفير بدائل ممتعة وبنّاءة.

الحل لمواجهة خطر الألعاب الإلكترونية لا يكون بالمنع المطلق، بل بالتوجيه الذكي نحو ما يُنمّي الطفل ذهنيًا وروحيًا، ويعزز نموه الصحي والسلوكي. الألعاب التعليمية تنمّي مهارات التفكير والتحليل، والألعاب الحركية تحافظ على اللياقة البدنية والصحة العامة، والأنشطة التطوعية تغرس روح العطاء والمسؤولية، بينما الألعاب التراثية تعيد الارتباط بالهوية والثقافة الأصيلة. فالمطلوب إعادة تعريف الترفيه الرقمي بما يتوافق مع قيمنا الإنسانية والإسلامية، بحيث يصبح وسيلة لبناء العقول وتعزيز الفضيلة وصقل الشخصيات على أسس معرفية وأخلاقية سليمة.

الألعاب الإلكترونية، إذا لم تُحكم مراقبتها وتوجيهها، قد تتحول إلى أداة تهدد النمو النفسي والسلوكي للأطفال، وتغير قيمهم وهويتهم. فاللعبة التي تلهو بها أيدي الطفل اليوم، قد تشكل فكره وسلوكه غدًا، ويصبح لذلك أثر طويل المدى على المجتمع بأسره. وقد شهدت حالات واقعية أثر الألعاب الإلكترونية الضارة على الأطفال؛ منها طفل انطوى على نفسه بعد الانغماس في لعبة عنف رقمي، حتى أصبح يهاجم أقرانه ويتصرف بعدوانية غير مبررة، وأخرى فتاة فقدت تركيزها الدراسي بسبب إدمان لعبة تروّج للتفاخر المادي والظهور أمام الآخرين، ما أثر على سلوكها الاجتماعي وثقتها بنفسها.

تلك القصص الواقعية تحذر كل أسرة من خطورة الإهمال في متابعة ما يلعبه الطفل، وتؤكد أهمية مراقبة المحتوى، وتنظيم أوقات اللعب، وفتح حوار مستمر مع الطفل حول ما يشاهده ويمارسه. فالوقاية تبدأ بالوعي، والوعي يبدأ بالأسرة الحاضنة، فلا تتركوا أطفالكم فريسة لتأثيرات خفية، بل كونوا رقباء لهم بمحبة وحنان، ووجهوهم نحو اللعب الآمن الذي يغذي عقولهم ويصقل شخصياتهم بالقيم الأخلاقية والإنسانية السليمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى