قصة بعنوان “عذراً، لا تقترب”

بقلم:عبدالعزيز عطيه العنزي
في قلب مدينة صاخبة تعج بالحياة، كانت تعيش فتاة تدعى “نورة”. لم تكن نورة كباقي الفتيات، كانت تحمل هالة من الوحدة تلفها كوشاح خفي. كانت جميلة وهادئة، لكنها كانت تبعد الجميع عنها بعبارة رقيقة لكن حازمة: “عذراً، لا تقترب.”
كانت نورة تعمل في مكتبة صغيرة، بين رفوف الكتب القديمة ورائحة الورق العتيق، تجد عزلتها وراحتها. كانت تقضي أيامها بين صفحات الحكايات والأشعار، تهرب من صخب العالم الخارجي ومن محاولات الآخرين لاقتحام عالمها الخاص.
كان “خالد” شاباً وسيماً وجذاباً، يعمل في المقهى المقابل للمكتبة. كان يراقب نورة من بعيد، يأسره جمالها الغامض وهدوئها الآسر. حاول مراراً وتكراراً أن يتبادل معها بضع كلمات، أن يقدم لها كوب قهوة، أو حتى أن يبتسم لها ابتسامة عابرة، لكنها كانت ترد دائماً بنفس العبارة الرقيقة: “عذراً، لا تقترب.”
في البداية، شعر خالد بالإحباط والرفض. تساءل عن سر هذه الفتاة المنعزلة، وما الذي تخفيه خلف ستارها البارد. لكن فضوله لم يلبث أن تحول إلى إصرار. كان يشعر بأن هناك شيئاً أعمق خلف تلك العبارة، شيئاً يستحق الاكتشاف.
بدأ خالد يتردد على المكتبة بشكل يومي. لم يعد يحاول التحدث مع نورة مباشرة، بل كان يكتفي بمراقبتها من بعيد، يقرأ الكتب التي تقرأها، ويستمع إلى الموسيقى الهادئة التي كانت تشغلها. كان يحاول أن يفهم عالمها من خلال اهتماماتها.
لاحظت نورة وجود خالد، لكنها لم تغير من سلوكها. كانت لا تزال تحافظ على مسافتها، وتردد عبارتها الشهيرة على أي محاولة للتقرب. لكن شيئاً ما بدأ يتغير بداخلها. بدأت تشعر بنظراته الدافئة، وباهتمامه الصامت. بدأت تلاحظ التفاصيل الصغيرة: كيف كان يختار نفس الكتب التي تحبها، كيف كان يبتسم لها بحذر من بعيد.
في أحد الأيام الممطرة، وبينما كانت نورة تغلق أبواب المكتبة، تفاجأت بخالد يقف أمامها حاملاً مظلة. تردد قليلاً ثم قال بصوت خفيض: “المطر غزير، هل تسمحين لي بإيصالك؟”
نظرت إليه نورة بتردد، ثم إلى المطر المنهمر. للمرة الأولى، لم تنطق بعبارتها المعتادة. صمتت للحظات ثم قالت بصوت يكاد لا يُسمع: “شكراً لك.”
خلال الطريق، ساد الصمت بينهما. لكنه لم يكن صمتاً ثقيلاً، بل كان صمتاً مليئاً بالترقب والحذر. عندما وصلا إلى منزل نورة، توقف خالد ونظر إليها بعينين صادقتين وقال: “نورة، أعلم أنكِ تفضلين الوحدة، وأنا أحترم ذلك. لكنني أود أن أعرفك أكثر، أن أكون صديقاً لكِ إن سمحتِ.”
تنهدت نورة بعمق، ونظرت إلى الأرض. للمرة الأولى، شعرت برغبة في كسر هذا الحاجز الذي بنته حول نفسها. رفعت رأسها ونظرت إلى عيني خالد وقالت بصوت مرتعش: “عذراً… لقد اعتدت على قول ذلك. لكن ربما… ربما يمكننا أن نحاول.”
ابتسم خالد ابتسامة رقيقة أضاءت وجهه وقال: “سأكون صبوراً يا نورة. سأنتظر حتى تكوني مستعدة.”
منذ ذلك اليوم، بدأت نورة تسمح لخالد بالاقتراب ببطء. اكتشفت فيه صديقاً حقيقياً يفهم صمتها ويحترم حاجتها للعزلة. تعلمت منه أن الوحدة ليست دائماً خياراً، وأن هناك قلوباً تستحق المخاطرة وفتح الأبواب لها.
وعلى الرغم من أن عبارتها “عذراً، لا تقترب” ظلت محفورة في ذاكرتها كجزء من ماضيها، إلا أنها أدركت أن بعض القلوب تستحق أن تخترق هذا الحاجز، وأن الحب الحقيقي يعرف كيف ينتظر ويحترم الحدود، حتى يحين الوقت المناسب للاقتراب.